يأتي حين من الدهر ليتعلم الإنسان أصول التحضر والممارسات الراقية من فنون الإدارة والتنظيم من كائنات لم تكن تخطر على باله. ولأن الإنسان ( جهولا عجولا ) فقد ظن أن الأرض لا تتسع إلا لسيرته السلوكية، وانه الوحيد القادر على الإبداع والإدهاش، وانه يمتلك الحق المطلق في إلصاق النعوت والصفات بغيره من الكائنات على أساس أنها أحكام نهائية محقة.

. لكن ما يأتي به العلم من اكتشافات يدحض كل هذه الأوهام، ويضع الإنسان في قفص التلميذ الذي يجب عليه أن يخجل مما يحدث في عوالم الكائنات الأخرى من أخلاقيات لا يزال يتعثر في انجازها .

ولعل إنشاء جمعية للحمير، على سبيل المثال، في حقبة الأربعينات، والتي ضمت نخبة من المفكرين والمبدعين، تمثل صفعة في وجه من يتوهم أن الغباء صفة فطرية ملازمة للحمير.

ورغم عدم وجود دليل واحد على هذه الصفة إلا أن غباءنا لا يزال مصرا على هذا التوصيف للحمار، متجاهلا طيبته وقوته على تحمل الظلم والضرب والأذى. وقد كان برنارد شو وتوفيق الحكيم من أشهر الأدباء الذين قاموا برد اعتبار الحمار إمعانا في كشف أكاذيب البشر عن هذا الكائن الودود.

ومن الافتراءات التي يمارسها الإنسان ضد غيره من الكائنات إطلاقه صفة الشؤم على طائر الغراب، حتى اسماه (غراب البين ) دلالة على رمز الفراق والوحشة وخراب الديار . ومع عدم ثبات هذا الربط أمام الحقيقة يبدو الإنسان ناكرا للجميل للطائر الذي علمه كيفية مواراة الجثامين في قصة هابيل وقابيل.

هزيمة الإنسان بأحكامه على الكائنات الأخرى لا تعد ولا تحصى، لكن الانتكاسة الموجعة التي مني بها أصحاب الياقات البيضاء تكمن في الخبر الذي أوردته وكالات الأنباء منذ أيام عن اكتشاف العلماء للممارسات الديمقراطية ونزعة المشاركة الاجتماعية التي تسم عالم (الصراصير) عبر استخدامها للشوارب وتبادل النظرات للوصول للمصلحة المشتركة التي تهم الجميع .

. هذه الحشرة التي نالت قدرا كبيرا من اشمئزاز الإنسان وقرفه بوصفها رمز القذارة، ولا يمكن بالطبع أن ننكر كم الأضرار والوساخات التي ترتبط حصرا بالصراصير.

كما لا ننسى كم الأدبيات التي اتخذت الصرصار مدخلا لكل ما هو حقير ودنيء ورخيص في عالم البشر، مثل رواية ( المسخ ) لفرانز كافكا الذي رأى أن نهاية الإنسان وآدميته سوف تكون في تحوله إلى صرصار.

ولا يفوتنا ان نذكر المقال الطويل للمفكر السعودي عبد الله القصيمي الذي نشر في مجلة الكشكول عام 2001 تحت عنوان ( كبرياء التاريخ في مأزق عصر الصراصير ) جاء من ضمنه ( إن الحضارة تتحدى اليوم ضميرها، وإنها بانتهازية وغواية دولية تتنافس كتلها المذهبية المتعادية على صناعة الصراصير وتحولهم إلى زعماء مذلين لغيرهم ).

مقولات وتشبيهات كثيرة يمكن رصدها عن هذه الحشرة ذات السيرة الموبوءة، والتي كان يستحيل تثمينها بأي ثمن كان لولا الخبر العلمي المذكور آنفا، والذي وضع الإنسان في مفارقة سياسية فضائحية ليست في صالحه بالمرة بعد أن سمعنا ورأينا عن الديمقراطية التي يفخر بها من يفخر دون أن يهتز له رمش أو يتحرك له حياء عن هذه الصناعة البشرية الناضحة بالروائح الكريهة.

والخرائب التي تعشش فيها .. حتى انقلبت الأمور ( الآن) إلى حقيقة مدوية ومخزية لأدعياء الديمقراطية الذين كانوا يتطلعون بوصم كل ما عداهم بالزواحف، فباتوا في سباق مع ثقافة الصراصير لكي يثبتوا صدق ديمقراطيتهم وعدم زيفها، بل وأصبحوا في حاجة ماسة إلى مرافعة تاريخية لتبرئة أنفسهم أمام الحشرات التي كانوا يدوسونها بأحذيتهم.

لكن أسوأ ما في الخبر أن الذين يحتقرون الديمقراطية ويحرمون غيرهم من نعيمها صاروا بوسعهم القول بأنهم ينأوون بأنفسهم عن ليبرالية الصراصير.