رحل الشاعر المتمرد محمد الماغوط، يوم أمس، في غفلة من محبيه بجلطة دماغية. فقد كان الكهل الذي شوهد، الشهر الماضي، يتسلم جائزة سلطان العويس في الإمارات، وهو يتحامل على كرسي متحرك، أكثر فرحاً وتفاؤلاً من أي وقت مضى. لقد جعلته هذه الجائزة ينقلب على عنوان ديوانه الشهير «الفرح ليس مهنتي»، ويعلن ولو لمرة واحدة عن رضى لم يكن معتاداً ولا منتظراً منه: «لقد أدخلت الجائزة السعادة في قلبي.. وهي دليل قاطع على أن أناساً ما زالوا يهتمون بالكلمة الحلوة». عن عمر 72 سنة، ودع الماغوط دمشقه، تاركاً خلفه دنيا العرب التي أكلت من أنامله قطعاً، ونالت من جسده وعقله ومشاعره، معتبراً أننا «جميعنا ضحايا الضجر الأميركي»، مؤكداً عكس الشائع عنه أنه جاد وعاقل وحكيم، نافياً أن يكون بوهيمياً عبثياً كما يشاع ويتداول. «الحياة بالنسبة لي ساخرة بقدر ما هي جادة.. وحتى كلمة «صدفة» في فيلم «الحدود» كانت جادة ومدروسة».
صدّق الماغوط أو لا تصدقه، فالرجل الشريد عبث بالكلمات والصور والأحلام كما لم يفعل غيره وركن الأوزان وسرح في قصيدته النثرية، مُدخِلاً عليها الأرصفة والأحذية والكلاب والقطط والحارات، وضخها بآلامه وانكساراته وفقره الذي جعل منه قضية كل الفقراء الذين تبناهم وتحول إلى ناطق شعري باسمهم.

قال ذات يوم «لكي تكون شاعراً عظيماً في أي بلد عربي يجب أن تكون صادقاً. ولكي تكون صادقاً يجب ان تكون حراً. ولكي تكون حراً يجب ان تعيش. ولكي تعيش يجب أن تخرس». لكنه بقي يتكلم ويكتب ويناور. لم يكتف بدواوينه التي ابتدأها بـ«حزن في ضوء القمر» عام 1959 ثم «غرفة بملايين الجدران» عام 1964 و«الفرح ليس مهنتي» الذي صدر عام 1970 لكنه انتهج كل طريقة توصله الى الناس. كان حريصاً على ان يقرأ ويشاهد ويسمع. كان يعنيه أن يقول ما يريد وان يرى الصدى قوياً، هكذا يعترف هو نفسه. لذلك حين توقف عن كتابة الشعر في سبعينات القرن الماضي كتب مسرحياته الشهيرة التي اشترك في كتابة بعضها مع دريد لحام. ومن منا لم يشاهد تلك المسرحيات والمسلسلات والأفلام؟ ومن منا لم يشاهد «التقرير» و«الحدود» و«وادي المسك» و«وين الغلط». كان يريد الماغوط أن يصبح جماهيرياً وألا يبقى مثقفاً منعزلاً رغم أن العزلة صارت قدره، وعاشها بمرارة لم تكن سهلة ولا لينة المذاق. مع وحدته وسيجارته والكأس التي لا تنزل من يده، قضى الماغوط، وهو مُتيقن هذه المرة، انه لم يمر في عالمنا سراباً باهتاً بل خلف وراءه دواوينه وكتبه وثورته وأحلامه وغضبه وكتابه الأخير الذي كان مغتبطاً به ومحتفياً بمقالاته التي جمعها بين دفتيه تحت عنوان: «البدوي الأحمر».

تعلم هذا السوري الريفي العِصامي في قريته السلمية، ودخل المدرسة الزراعية ولم يكمل تعليمه وانضم الى «الحزب السوري القومي الاجتماعي». سجن تكراراً في سورية كما في بيروت وعمل صحافياً ومحرراً في عدد من الصحف السورية والعربية. كان له نشاط إذاعي وتلفزيوني. وكان الشاعر أدونيس قد أطلقه في بيروت يوم عرّفهُ على جماعة مجلة «شعر». وعن طريقهم أصدر ديوانه الأول. كان يعرف منذ البدء أنَّ قلقه كبير ورغباته جامحة وقدراته محدودة، «ليس عندي سوى هذا الحزن المنتشر فوق رأسي كمخالب النسر. أنا مجرد إنسان فقير ومحطم». ولذلك تشرح زوجته سنية صالح التي رحلت عنه عام 1985 «ذروة المأساة هي في إصراره على تغيير هذا الواقع وحيداً لا يملك من أسلحة التغيير إلا الشعر. فبقدر ما تكون الكلمة في الحلم طريقاً إلى الحرية نجدها في الواقع طريقاً الى السجن». وكانت تعرف سنية الشيء الكثير عن زوجها الخائف دائماً المرتعِد ابداً المُصِرّ باستمرار على ان يقف هلعاً في وجه العاصفة لذا ربما كتبت ذات يوم: «محمد الماغوط في وجه من الوجوه جزء من المستقبل، لذا كان لا بد من حمايته من غباء الحاضر». لم يمر الماغوط مرور الكرام ولم يذهب نحته في صخر الكلمات سدى، فقد حاول ان يبني لعالمنا الذي نعيش فيه عالماً بديلاً، وهو يشرح ما يضطرم في داخله من اضطرابات وعواصف، قائلاً في قصيدته «الغجري المعلب»: «بدون النظر إلى ساعة الحائط أو مفكرة الجيب، أعرف مواعيد صراخي. وأنا هائم في الطرقات أصافح هذا، وأودع ذاك. أنظر خلسة الى الشرفات العالية، الى الأماكن التي ستبلغها أظافري وأسناني في الثورات المقبلة. فأنا لم أجع صدفة، ولم أتشرد ترفاً أو اعتباطاً. ما من سنبلة في التاريخ إلا وعليها قطرة من لعابي».