غيّب الموت بعد ظهر امس الشاعر والكاتب السوري محمد الماغوط عن عمر يناهر 72 عاما، اثر تعرضه لهبوط حاد في القلب.

وكان أمس يوماً عادياً في حياته. تناول طعامه وأدويته بإشراف ابن أخته الدكتور محمد بدور مرافقه في السنوات الأخيرة. ولدى عودة بدور وجده جالساً على أريكته في الصالون. وكان في يده اليمنى عقب سيجارة وفي اليسرى سماعة الهاتف، في حين يدور صوت شريط المسجلة في تلاوة لسورة يوسف... لكنه كان فارق الحياة.

وفور شيوع الخبر، تجمع أصدقاء له وأقارب في منزله في «المزرعة»، وكان بين اول الواصلين «صاحب العمر» دريد لحام الذي تصالح معه بعد فترة من البرود.

ولد الماغوط في السلمية في محافظة حماة في 1934 من عائلة فقيرة. ولم يستطع انهاء دراسته الثانوية في المدرسة الزراعية. ودخل السجن في 1955 بتهمة الانتماء الى الحزب السوري القومي الاجتماعي.

ثم انتقل الى بيروت ليشارك في مجلة «شعر»، وينشر ديوانه الأول «حزن في ضوء القمر» في 1959. وتلاه ديوان «غرفة بملايين الجدران» (1961) و «الفرح ليس مهنتي» (1970). وكتب الماغوط مسرحيات مثل «العصفور الأحدب» و «المهرج» و «ضيعة تشرين» و «غربة»... وكان منحه الرئيس بشار الأسد العام الماضي وسام الاستحقاق من الدرجة الاولى، وأرسل على حساب القصر الرئاسي للمعالجة في باريس.

كان محمد الماغوط من رواد قصيدة النثر وأولى قصائده وعنوانها «القتل» كتبها في السجن. واستطاع في دواوينه الثلاثة الأولى أن يؤسس مدرسة شعرية جديدة، عمادها التجربة الحية والموهبة الفريدة. فهو جاء الشعر من الحياة أكثر مما جاءه من الثقافة والكتب. وكان له أثر كبير في الأجيال التي أعقبته.

الحوار الأخير

رحل الماغوط من دون ان يتسنى له ان يقرأ الحوار الذي أجرته معه «الحياة» في دبي عندما زارها قبل ثلاثة أسابيع، ليتسلّم جائزة العويس التي فاز بها. قال لي إنه سينتظر الحوار في «الحياة» التي يحبّها ويقرأها، وأوصاني ألا أتأخر في نشره. ومثلما لم يهنأ بالمئة ألف دولار التي حصل عليها أخيراً لم يهنأ كثيراً بكتابه الذي صدر حديثاً وعنوانه «البدوي الأحمر»، فهو بالكاد قلّبه بين يديه ووزّع بضع نسخ على اصدقائه. عندما سألته عمّا يريد ان يفعل بـ «دولارات» الجائزة قال لي ان نصفها سيذهب الى الصيدلية، فالحياة أصبحت بقايا حياة، والرغبات لم يبق لها وجود.

هذا الحوار هو الأخير له، وفيه ما يشبه الوصايا الصغيرة والكلام الذي يشبه الوداع. فهو لم يكن يدلي بأي حديث في الآونة الاخيرة ويتحاشى الصحافيين وأسئلتهم. كان متعباً جداً، إذا خرج من البيت فإنما على كرسي متحرّك يسميه صديقه الوفيّ. أما في الداخل فيمشي بصعوبة كبيرة متكئاً على عصاه. لكن السيجارة لم تكن تفارق أصابعه ولم يكن يتخلى عن «الدواء» الذي يخدّر أعصابه ويخفّف من الألم الجسدي والروحيّ. كان نومه قليلاً وكان ليله ونهاره متواصلين، لا يعرف متى يغفو ولا متى يصحو كما قال في «الحوار». وكان يصرّ على الكتابة بيد ترتجف قليلاً. فالكتابة في نظره هي الحياة، والموت هو الانقطاع عن الكتابة.

وعلى رغم الكآبة التي لم تكن تغادره والألم الذي يعتمل في ثنايا جسده، كان يتمسك بسخريته الحيّة والعابثة وبخفة الظل التي وسمت مقالاته وأعماله المسرحية. كان يحاول دوماً ان يبتسم ويضحك، لا سيما بعدما حصل على الجائزة التي فرح بها كما «يفرح الطفل بالطابة» كما قال. حتى الاسئلة التي تذكّره بماضٍ أليم كان يجيب عليها بشيء من الحبور الخفيف. كان يحبّ الحياة، ولو مقعداً، أو معزولاً ووحيداً.

لم يخطر لي وأنا أحاوره ان هذا الحديث سيكون الأخير. تحدث عن ماضيه وحاضره باختصار، ولكن ببعض الأسى واللامبالاة غير نادم على شيء. قال إن العالمية لا تعنيه و «ليذبح أي لحام زوجته فيصبح عالمياً».

وتحدث الماغوط عن أمور شتى، عن الشعر وقصيدة النثر وبيروت ودمشق والمقهى والشارع وعن اصدقائه وعن حافظ الأسد الذي قال له: أكتب ما تشاء ولن يراقبك أحد.