باتريك سيل - الراصد للتوثيق الإعلامي

من المرتقب أن يتجه "إيهود أولمرت" زعيم حزب كاديما –الحزب الأكبر والأوفر حظاً في الكنيست الإسرائيلي الحالي السابع عشر- قريباً إلى واشنطن في زيارة رسمية لها بدعوة من الرئيس جورج بوش, حسبما جرت عادة توجيه دعوة مماثلة لكل رئيس وزراء إسرائيلي جديد إلى واشنطن. ومن المؤكد أن ما سيقوله بوش لأولمرت خلال هذه الزيارة, ستكون له أهميته الفائقة فيما يتعلق بمستقبل الشرق الأوسط. غير أنه لا يزال مجهولاً بعد, إن كان بوش مدركاً لحقيقة ما إذا كان لإسرائيل أن تنعَم بالأمن والسلام الذي تنشد, وإن كان لواشنطن أن تصب ماءً في نار الغضب الشعبي العارم على سياساتها في العالمين العربي والإسلامي, وما ينطوي عليه ذلك الغضب من مخاطر جمة تهدد نفوذها ودورها, فإنه لا مناص من إعطاء الأولوية القصوى لإبرام صفقة سلام إسرائيلي- فلسطيني في أقرب وقت ممكن. ولكن ما هي الفرص الفعلية المتاحة لإحداث طفرة جادة في هذا المنحى؟ من أسف أن المؤشرات لا تبدو مبشرة ولا تحمل الفأل. فأغلب الظن أن يكرر أولمرت –المنهمك حتى أذنيه حالياً بتشكيل حكومة ائتلافية عقب الانتخابات- الأسطوانة الإسرائيلية المشروخة ذاتها, القائلة بعدم وجود شريك فلسطيني, يمكن الحوار والتوافق معه, على صفقة سلام ترضي طموحات الطرفين. والشاهد أن هذه ليست سوى فِرية إسرائيلية حبكت منذ عدة سنوات, ليس المقصود منها سوى التستر وراءها, واتخاذها ذريعة للهرب من أي تفاوض مع الفلسطينيين. لذا فإن المرجح أن يواصل "أولمرت" دعواته لحركة "حماس", التي جرى تحويلها ذهنياً إلى "عفريت إرهابي", رغم تشكيلها للحكومة الفلسطينية الجديدة!

وفوق ذلك وقبله, فمما لا ريب فيه أن يسعى "أولمرت" إلى دعم أميركي لخطته الجديدة الرامية إلى ترسيم الحدود النهائية لإسرائيل أحادياً ودون التفاوض عليها مع الفلسطينيين, مع العلم بأنها تلتهم مساحات واسعة في عمق الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية. وكم كانت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس, على درجة من التهور, بتصريحها الذي أدلت به أثناء زيارتها لبرلين الأسبوع الماضي, حيث رجحت احتمال مساندة بلادها لخطة الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من الضفة الغربية. وكان من الحكمة والدبلوماسية أن تتوخي الوزيرة الحيطة والحذر فيما تتفوه به من كلمات تحسب عليها وعلى بلادها.

وعلى رغم هذا كله, فإن هناك بصيصاً من أمل يبرق في لجة هذا المشهد السوداوي المشؤوم. ويتمثل هذا الأمل في أمرين، أولهما مؤشرات ودلالات الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة التي جرت في الثامن والعشرين من شهر مارس المنصرم. فقد أفضت هذه الانتخابات إلى هزيمة ماحقة لحزب "الليكود", بل وللمعسكر الديني الوطني "اليميني" برمته, مما يعني هزيمة التيار الأكثر تشدداً ودفاعاً عن السياسات التوسعية, مقابل التحول الواضح في الرأي العام الإسرائيلي باتجاه "اليسار" المعتدل. وإن كانت ثمة دلالة لهذا التحول, فهي تكمن في احتمال توفر الأرضية السياسية التي يمكن إبرام صفقة تسوية مرضية ومقبولة عليها.

أما ثاني المؤشرات, فيتلخص في أن "الكنيست" الإسرائيلي يتألف من 120 عضواً, والمرجح هو أن يعمد "أولمرت" إلى تشكيل حكومة ائتلافية تضم حزبه –كاديما- الذي يحظى بـ28 مقعداً من مقاعده, وحزب "العمل" الذي يقوده عمير بيريتس (20) مقعداً, إلى جانب 7 مقاعد أخرى فاز بها حزب المتقاعدين الجديد –وهو حزب يضم كبار السن-, وهناك 13 مقعداً آخر فاز بها كل من حزب "شاس" -الممثل للتيار اليميني المتطرف- وحزب "مزراحي" المؤلف في معظمه من أعضاء الطبقة العاملة الإسرائيلية. وتستطيع هذه الأحزاب الأربعة مجتمعة, تشكيل كتلة برلمانية قوية, قوامها 68 مقعداً, يتوقع لها أن تحظى بتأييد حزب "ميريتس" اليساري المتطرف (4) مقاعد, فضلاً عن تأييد الأحزاب العربية (10) مقاعد.

لكن لكي يصيب "أولمرت" نجاحاً في مسعاه القيادي, فإنه لابد له من الشجاعة والرؤية السياسية الحصيفة, وإلا فما جدوى قوة الائتلاف الذي يقف من خلفه ويؤازره؟ وأول ما تتطلبه هذه الشجاعة والرؤية, أن تكون له القدرة على تجاوز ما أعلنه في برنامجه الانتخابي, إلى ما يفضي إلى السلام حقاً مع الفلسطينيين. وها هي اللحظة المناسبة التي تعين فيها عليه أن يدرك خطل الترسيم أحادي الجانب لحدود دولته, وفرض تلك الحدود فرضاً على جيرانه الفلسطينيين. والمأخذ الرئيسي على هذه الخطة, أنها تكون لا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت... أي أنها لا تحقق لإسرائيل الأمن والسلام الذي تنشد, ولا هي من نوع تلك السياسات التي يقرها ويعترف بها المجتمع الدولي. وعلى "أولمرت" أن يدرك أن آخر ما يمكن أن يقبله الفلسطينيون, هو ضم القدس الشرقية ووادي الأردن والمستوطنات الإسرائيلية الكبيرة التي تصادر نحو 21 كيلومتراً من أراضي الضفة الغربية إلى حدود دولته. وليعلم أن ردة فعلهم على هذه التوسعات الجائرة, ستكون عنيفة وقوية وحادة.

وإذا كان "أولمرت" على قدر عزم رجل الدولة بحق, فإن عليه أن يوجه دعوة إلى إسماعيل هنية, رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد, إلى مقره في إسرائيل ويبدأ معه مفاوضات مفتوحة ومباشرة حول الوضع النهائي. ومما لاشك فيه أن من شأن خطوة تاريخية كهذه, أن تغير ملامح المشهد الشرق أوسطي بمجمله, وتسجل اسم "أولمرت" بأحرف من نور في كتب التاريخ.

وفي غضون ذلك, ينبغي على "حماس" أن توضح للعالم موقفها من كافة القضايا الأساسية المتعلقة بالحرب والسلام, والحدود واستخدام العنف. وعلى رغم تأكيدات رئيس وزرائها إسماعيل هنية, التزام حكومته بإبرام صفقة سلام عادلة ونهائية مع إسرائيل, إلا أنه لم يجد أذناً تصغي إليه, سواء في واشنطن أم في تل أبيب. فهل تصغي إليه العاصمتان؟