من الصعوبةالحديث عن ملامح اليسار السوري بالاحالة الى الأحزاب السياسية والتي مثلت تاريخيا اليسار وذلك لضعف فعاليتها السياسية ولعدم الوضوح البرنامجي وهاتان المسألتان مرتبطتان ببعضهما. لهذا فان أفضل وسيلة لاكتشاف ملامح اليسار هي مثقفي اليسار.
هناك تقسيمان يمكن أن يكونا مفيدين لحد معين وهما ( سلطة / مولاة) و (يمين/ يسار - ضمن اليسار ذاته) وهما شائعان ويمكن استخدامهما بشكل وظيفي, دون ان يكونا كافيين لكشف تعقيد ملامح اليسار السوري كما سنرى فيما بعد.

ضمن اليسار السوري تبرز عدة أسماء ومنها مثلا ياسين الحاج صالح, د. برهان غليون, سلامة كيلة وهولاء يمكن أن يمثلوا يمين ووسط ويسار اليسار. هناك بالتأكيد أسماء هامة أخرى كميشال كيلو وصبحي حديدي وآخرين ولكن الثلاثة الأوائل يتميزون بكثافة الكتابة السياسية وامكانية تقديمهم كنماذج.

تلعب الديمقراطية دورا هاما في رؤية اليسار السوري الحالية ولكنها على الرغم من هذا لا تتخذ فهما واحدا لدى جميع أطياف اليسار. فهي ديمقراطية علمانية (أو علمانوية) متشددة عند أقصى اليسار كسلامة كيلة ولكنها منفتحة على الآخرين وخاصة الاسلاميين عند الحاج صالح.وهذا ما يجعل ديمقراطية اقصى اليسار متشابهة مع أفكار الليبراليين أكثر من يمين اليسار (الحاج صالح). كذلك لا تأخذ الديمقراطية الأهمية ذاتها. فعند الحاج صالح وغليون سنراها قيمة أولى بالقياس الى باقي الأهداف وتملك استقلالها النسبي وهذا ما يعني أولوية التناقض مع النظام. على العكس تماما عند كيلة فهي ليست أولوية تامة, هي هامة جدا وضرورية, ولكنها ليست أولى ولا تنفصل هن المحتوى السياسي والاجتماعي لها, ارتباطها مع ضرورة المواجهة للمشروع الامريكي للمنطقة. الديمقراطية عند أقصى اليسار تتضمن شيء من النفعية, هي مطلوبة كونها الوسيلة الأمثل لمثل هذه المواجهة. بينما لدى الآخرين الديمقراطية مطلوبة لذاتها.
الطرح الديمقراطي غير المنفصل عما عداه لدى كيلة أفضل لجهة ارتباطه بمشروع مما يجعله اكثر ارتباطا بالهم اليومي للانسان العادي, ولكنه يجعل الآخرين يتوجسون منها كونها شبه نفعية, أي يمكن أن ترمى سريعا في سبيل أهداف أخرى. بينما الآخرون لا يسببون هكذا توجس لغيرهم لكن الديمقراطية تبقى غائمة وغير واضحة وبعيدة عن الهم اليومي.

د. برهان غليون قدم مساهمته في هذا الموضوع عبر محاولته الفصل بين الديمقراطية والليبرالية وذلك من أجل تعزيز ربط الديمقراطية بالمسائل العملية, بالهم الاجتماعي للفئات الكبرى من الشعب السوري وهو ما سيكون محاولة للربط بين وجهي الديمقراطية دون التفريط بأحدهما. أي أهمية الديمقراطية بحد ذاتها دون أن تكون ملحقة بمشروع أكبر منها وكونها تعبر عن مشروع اجتماعي لفئات واسعة من الشارع السوري وليست مجرد حريات غائمة لا يمكن أن يستفيد منها الا قلة. لكن هذا الموضوع لم يتبلوربشكل واضح حتى الآن واحد الاسباب هو سياق اليسار السوري والذي يجعل الديمقراطية كما قلت لا تكون على مستوى واحد من الأهمية لديهم وبالتالي أن تكون موضوعا للتفكير من قبلهم على نفس المستوى من الاهتمام.

تعتبر مسألة الاجتماعية هي المحك لفصل اليسار عن غيره, انها مسألة هويته.
الحاج صالح يعي تماما أهمية المسألة الاجتماعية للسوريين لكنه يرى أن حلها يتم ضمن النظام الديمقراطي. ضمن اطار التفاوض بين الفاعلين الاجتماعيين المختلفين للوصول الى تسويات يربح منها الجميع. المسألة الاجتماعية لم تعد مسألة ملكية انما مسألة ضبط التوزيع ليكون أكثر عدالة. بينما مع كيلة تعود المسألة الى الشكل الأكثر كلاسيكية, ملكية عامة يجب الحفاظ عليها وصياتها وتطويرها ودمقرطتها. الاشتراكية هي مسألة الملكية.

غليون والوسط لا يحيلون الى ما هو واضح. فهو ضد هذا الشكل من الرأسمالية العشائرية (بتعبيره) السائد وضد العولة المتوحشة ويطالب بتوزيع أكثر حدالة (كالحاج صالح) ولكنه يؤكد أكثر ( بشكل واضح لدى معقل زهور عدي كممثل آخر لهذا الوسط) على مسألة عدالة التوزيع ودور الملكية العامة. أي محاولة للوصول الى تسوية بين الرؤيتين. عندهم تملك المسألة الاجتماعي حضورا أكبر بالمقارنة مع يمينهم ولكنها ليست متشددة بالمقارنة مع يسارهم, ولكنها أقل وضوحا من الاثنين.

اليسار السوري لا يمتك هنا أيضا ذات الفهم لهذه المسألة ولا يوليها ايضا ذات الأهمية.
مسألة التحالفات السياسية تعبر تماما عن فهم اليسار السوري لبرنامجه وواقعه وهي الأخرى كما سنرى ليست متماثلة. فالحاج صالح يرى أن الأولوية هي لتحالف القوى المعارضة من أجل تحقيق الديمقراطية (وهذا يماثل موقف الترك في رده على مجموعة ميثاق شرف الشيوعيين في مسألة وحدة الشيوعيين) ويمثله تماما اعلان دمشق. بينما يرى كيلة أن الأهمية لتيار ماركسي كما في مقالته " نداء الى كل الماركسيين في الوطن العربي - الحوار المتمدن 1130"وعلى مستوى أقل تيار وطني ديمقراطي اجتماعي كما في الاعلان المنشور على موقع البديل.

الوسط هو بين الاثنين وسأتحدث هنا عن زهور عدي كونه كتب عن الاعلانين ويبدو لي انه أوضح في هذه النقطة من د. غليون الذي يبدو أن مواقفه تحدد تبعا الى معطيات سياسية أكثر. زهور عدي رحب باعلان دمشق لكن بالمقابل ابدى الكثير من التحفظات عليه (1365- 1383 الحوار المتمدن) بالمقابل تضامن مع اعلان البديل حتى النهاية, قراءته لاعلان دمشق تجعله يحيله الى المستوى التكتيكي بينما اعلان البديل الى المستوى الاستراتيجي.لكن هذا الموقف ليس اشكاليا بقدر ما ان الاثنين خارج الفعالية السياسية, لكن مع دخولهما طور الفعل السياسي سيكون الأمر اشكاليا , ربما أقل الآن بعد ابتعاد الاخوان والشروط التي فرضها الاعلان لالتحاق المناصرين والتي منعت الكثير من الليبراليين الخارجيين, ليعود اعلان دمشق ويكون لحد ما حكرا على اليساريين والقوميين. تتضح هذه المسألة أكثر بالاحالة على الجانب اللبناني.

فحركة اليسار الديمقراطي الليناني مثلت اختيارا حقيقا لزهور عدي, تجديدا لليسار العربي, فهي خارج الدوغما السياسية وأكثر واقعية, وتعطي الأولوية لمسألتي الديمقراطية والتنمية. لكن مع تطور سياق الأحداث أظهر الواقع مشلكة هذا الخيار في مواقفه السياسية, والتي لا يؤيدها زهور عدي وهو الذي يحيل الى ضرورة المواجهة للمشروع الامريكي. لكن رغم ان اليسار الديمقراطي لم تعد لتكون خيارا لا يبدو ان الشيوعي اللبناني اصبح خيارا. بالمقابل حظيت حركة اليسار الديمقراطي بالتعاطف من قبل أطراف يسارية أخرى ( يمين اليسار) وما تزال, فالمشترك بينهم أكبر وهو أولوية المسألة الديمقراطية كما يرونها.

والموقف من اليسار الديمقراطي اللبناني وتطوره يظهر مقدار الصعوبة لأية محاولة تصنيف لليسار السوري بل حتى لليساري السوري.
وسط اليسار لا يمثل حتى الأن مشكلة سياسية لعدم فعالية الجميع, لكنه سيصبح كذلك مع أي تقدم في فعالية الأخرين وخاصة انه سيرى نفسه مبعدا من قبلهم.
مع كل هذه الاختلافات ما الذي يستدعي الحديث عن يسار سوري وما الذي يجمع هولاء معا حتى ندعوهم باليسار؟

يمتازاليسار بنقطتين تسمحان بالفصل بينه وبين الأخرين
وطنية (أو جوانية) الديمقراطية وهي مسألة محسومة من قبلهم دون أي لبس. الديمقراطية تعزيز للوطن, ان كانت تعزيزا لوحدته وهويته, أو لقوته على المواجهة. الديمقراطية أولا وأخيرا خيار يتحقق وطنيا ولغاية وطنية دون أية شبهة

المسألة الاجتماعية وان تفاوت الفهم بينهم لكنها تبقى حاضرة عند الجميع
نأتي الى الجانب الآخر, أي اليسار غير المعارض وهنا لا يحتاج المرء الى الحديث طويلا فاليسار غير المعارض يمكن تقريبه والى حد بعيد من اليسار المعارض, بل ان هذا التناقض (معارضة/ مولاة) غير دقيق. على سبيل المثال يمكن تقريب رؤية الحوب الشيوعي السوري- فيصل من وسط اليسار أكثر من تقريبها الى حليفه في الجبهة جناح بكداش. والأستاذ عطية مسوح وهو أحد أبرز منظري جناح فيصل هو أكثر قربا الى أفكارالحاج صالح. وجماعة قاسيون ليست معارضة ولا مولاة ولكنها بشكل واضح أقصى أقصى اليسار. لهذا أرى انه من الأفضل اعادة النظر في مسألة تقسيم اليسار على أساس معارضة / مولاة

هناك مسألة هامة يجب على المرء أن يذكرها وهي الطرح الشائع أن اليسار السوري غير المعارض هو يسار لا يمثل شيء واحيانا يستثنى جناح فيصل, وأرى ان هذا حكم خاطئ. فالمهرجان الذي أقامه جناح بكداش( حضره 15 الف ومهرجانهم الشبابي حضره 7 آلاف شاب- مجلة أبيض وأسود,العدد129, ملف على موقع مرأة سورية) ونشاطات اتحاد الشباب الديمقراطي- جناح فيصل تظهر انهما ما يزالان يتمتعان بحضور شعبي. طبعا هي أحزاب شائخة وتعطل فعالة الشباب فيها, لكنها ليست وحيدة في هذا. المهم انها تملك من الحضور الجيد على الشارع السوري ومن الأفضل ان يتم التعاطي معها على هذا الأساس ودون تمنن أو ترفع .

اليسار في سوريا متنوع الى حد كبير ويصعب على أية محاولة لخلق تمايوات واضحة واصطفافات, ومن الواضح انه لا يملك حتى الأن برنامجا يمكن أن يعمل في اطاره بشكل مشترك. وأولوياته غير متجانسة وان كانت نقاطه الهامة متشابهة. ولكن على هذا اليسار أن يتحاور وأن يسعى الى البحث عن فكرة تجمع ( تجمع منابر مثلا) فهذا ربما يكون ضرورة للحفاظ عليه واعطائه بعضا من القوة.

المسألة ليست هي أن يحقق اليسار احدى أولوياته (الديمقراطية مثلا) وبعدها ستتحقق النقاط الأخرى. المسألة مختلفة فالديمقراطية اما أن تتحقق ضمن اطار مشروع اليسار أو لتدعيمه أو أن تنجز لرميه خارجا. نقاط مشروع اليسار هامة وبنفس الدرجة ولا يوجد تراتبية فيما بينها ولا يمكن لهذا المشروع أن يحظى بفرصة الوجود الا ضمن تجمع لليسار يصون حق الجميع ويسعى الى ما هو مشترك بين الجميع, وهنا ستكون المراهنة الأكبر على وسط هذا اليسار.
لكن هذه المسؤولية لم تعد مسؤولية مثقفي هذا اليسار انما أحزابه, كما انها صعبة لأنها تتطلب أن تكون هذه الأحزاب اكثر ارتباطا بالشارع. اما الانعزال فلن يفعل الا تكريس أمراضه الأبدية من عصبوية ووحدانية وهاجس النقاء الثوري وغيرها