يتفق جميع اللبنانيين على تعدد طوائفهم وانتماءاتهم السياسية على ضرورة استعادة الثقة بين لبنان وسوريا والعمل على إنشاء علاقات ممتازة بين البلدين، وذلك خدمة للمصالح المشتركة والمترابطة بشكل عضوي لا يمكن تفكيكه مهما اشتدت الخلافات بين الحكومتين.
وتتوافر دون شك نفس القناعات لدى سوريا شعبياً ورسمياً، حيث أن البلدين قد ولدا من رحم واحد، وان هناك ترابطاً مصيرياً بينهما، لا يمكن تجاهله داخلياً أو عربياً أو دولياً. يمكن لعلاقات لبنان ان تتسم بالبرودة أو تسوء لدرجة تجميد العلاقات مع أي دولة أخرى، ولكن هذا لا يجوز كما انه غير ممكن مع سوريا. تبقى سوريا المنفذ الوحيد للبنان باتجاه العالم العربي، كما أنها الرئة التي يتنفس منها في علاقاته العربية، ثقافياً، وتجارياً وسياسيا، وهذا ما يؤكده الاهتمام العربي وخصوصا من قبل عاصمتي القرار العربي القاهرة والرياض وجهودهما من أجل رأب الصدع الذي أصاب العلاقات اللبنانية - السورية بسبب جريمة اغتيال الرئيس الحريري والإحراج الذي شعرت به سوريا بسبب تداعيات الجريمة ونتائج التحقيق الدولي وما رافقهما من حملات إعلامية متبادلة.
من هذا المنطلق تشكل عملية إعادة بناء العلاقات بين بيروت ودمشق نقطة مركزية في الحوار الوطني، كما أنها لا بدّ وان تحتل رأس سلّم الأولويات لدى الحكومتين مع أقصى درجات الحرص على اعادة بنائها بصورة واقعية وموضوعية على أساس البيئة الجديدة التي نتجت عن التطورات التي حدثت منذ اغتيال الرئيس الحريري، بكل توازناتها الوطنية والإقليمية والدولية.
يقول المؤرخ الأميركي الشهير صاموئيل هانتنغتون في كتابه «الدفاع العام» «يتعطل التوازن السياسي (بين دولتين جارتين) إذا ما طرأ على الوضع تغيير جذري في البيئة الداخلية لأي منهما أو حدوث تطورات هامة في البيئة الخارجية المحيطة بهما. عندما تتعرض إحدى البيئتين لضغوط يختل التوازن، ولا يمكن استعادته إلا إذا استعادت هذه البيئة أو تلك توازنها واستقرارها، على أن يتبع ذلك تصحيح للسياسات التي كانت معتمدة (سابقاً) وفق ما تقتضيه الظروف الجديدة».
هذا التوصيف الشهير للحفاظ على العلاقات المتوازنة بين لبنان وسوريا يدفعنا للتساؤل عن مدى الإدراك والقابلية لدى المسؤولين في بيروت ودمشق للاعتراف بعمق المتغيرات التي طرأت على البيئة الداخلية في كل منهما بعد اغتيال الرئيس الحريري وخروج القوات السورية من لبنان في نيسان عام 2005، وإدراكهما لعمق التطورات التي طرأت على الموقف الدولي (وخصوصاً الأميركي والفرنسي) في رؤيته لمصالحه وعلاقاته مع كل من لبنان وسوريا، وذلك ضمن إطار الجيوبوليتيك الإقليمي.
يبدو ان الحكومة اللبنانية قد أدركت منذ تأليفها أهمية إعادة بناء قواعد الثقة مع الحكم في سوريا، وهذا ما لاحظناه مباشرة بعد نيل الحكومة الثقة، حيث أسرع الرئيس فؤاد السنيورة بزيارة دمشق. لكن يبدو ان المحادثات التي جرت أثناء تلك الزيارة لم تأخذ بواقعية الخلل الذي طرأ على البيئة الداخلية والخارجية، مما أدى إلى حدوث تداعيات سلبية، ما زالت العلاقات المشتركة رهينة لها. هذه الانتكاسة دفعت القوى السياسية في لبنان إلى إجراء تقويم معقول للأسس التي يجب أن تستند إليها العلاقات الجديدة، وهذا ما يفسّر إعطاء الموضوع الأولوية اللازمة في جلسات الحوار الوطني.
كان هناك توافق لبناني على كل البنود الأساسية التي يجب ان تبحث بين لبنان وسوريا أن الرغبة اللبنانية في استعجال حدوث اختراق في جدار الجليد القائم بين دمشق وبيروت، قد اصطدمت بالإرادة السورية لتأخير زيارة الرئيس السنيورة إلى دمشق، بناء لقرار مؤتمر الحوار الوطني، ورغبة الحكومة اللبنانية في ذلك.
في الواقع من الصعب استقراء الأسباب الكامنة وراء القرار السوري بتأخير زيارة الرئيس السنيورة، ولكن ذلك لا يمنع من طرح عدد من التساؤلات :
هل يفتقد الحديث عن تصحيح العلاقات بين سوريا ولبنان للواقعية السياسية في كل الظروف اللبنانية الداخلية الراهنة والتطورات في كل من العراق وفلسطين؟
هل يعني التريث السوري رفض الروزنامة التي يريدها لبنان والتي تستمد ابرز عناوينها من ما قررته طاولة الحوار الوطني وخصوصا بندي ترسيم الحدود وإقامة علاقات دبلوماسية؟
هل ترى دمشق أن الظروف لم تنضج بعد من اجل تصحيح الرؤية السياسية السورية تجاه لبنان في ظل الأجواء الراهنة والضغوط التي تتعرض لها سوريا من قبل القوى الدولية؟
بالرغم من احتواء الغموض والشك اللذين ما زالا يهيمنان على العلاقات بين الحكومة اللبنانية والحكم في سوريا فانه لا بدّ وان تدرك سوريا بان الاستمرار في ممارسة الضغوط على لبنان سيؤدي إلى تهديد توازنه واستقراره مما سيدفعه للبحث عن مزيد من الدعم الخارجي، وبالتالي الارتماء أكثر فأكثر في أحضان النفوذ الأميركي والفرنسي، وسينتج عن هذه المعادلة الجديدة مزيد من الاختلال في علاقات سوريا الإقليمية والدولية ويعرض بالتالي استقرارها الداخلي للاهتزاز.
يقضي المنطق والواقعية السياسية أن ترحب دمشق بزيارة رئيس الحكومة اللبنانية، والمكلف من مؤتمر الحوار الوطني ببحث كل القضايا الأساسية العالقة بين البلدين، وذلك ضمن الاقتناع بضرورة تصحيح الرؤية السياسية للتعامل مع لبنان كدولة سيدة ومستقلة وضمن حدود محددة ونهائية.
حان الوقت لإجراء بحث جدي عن حلول عادلة تأخذ بعين الاعتبار المصالح الخاصة بكل من الدولتين، وإذا لم يحصل ذلك فمن العبث الحديث عن علاقات مميزة او عن ترابط مصيري في مواجهة العدوان الإسرائيلي.