نصر شمالي

لا يكاد يمرّ يوم دون أن تتعرض الأمة للتأنيب والتعنيف والتوبيخ على لسان أحد أبنائها، بل بلغ الأمر ببعضهم حدّ إدانتها بالوحشية والعقم على مدى العصور، متجرّئاً بلؤم "علمي" لا يعرف الرحمة، ولا حتى التهذيب، على أعظم قضاياها التاريخية الروحية والحضارية، محمّلاً إياها المسؤولية كاملة ليس عن أوضاعها البائسة فقط بل عن الإزعاج والقلق الذي تسببه للعالم المتحضّر، الراقي، المسالم! ولذلك كان تأثري كبيراً، وامتناني عظيماً، حين قرأت حديثاً منطقياً منصفاً وعميقاً للدكتور جورج صليبا (صحيفة السفير – 25/3/2006) المفكر اللبناني المقيم في الولايات المتحدة، وأستاذ العلوم العربية والإسلامية في جامعة كولومبيا.

قال الدكتور صليبا: البلدان التي استعمرت لا تزال مستعمرة تعيش في أعماق الاستعمار، فالاستعمار يغيّر وجوهه ويأتي من جديد لغاية واحدة هي سرقة ثروات هذه البلدان، و الأمم التي تفقد السيطرة على مقدراتها في ظل الاحتلال المباشر الطويل لا يمكنها إنهاء الاستعمار بسهولة بعد انسحاب قواته، حيث جميع الأنشطة الفكرية تبقى تعاني من التخلف الاجتماعي والسياسي العام الذي خلفه الاستعمار! هناك من يقول أن التخلف ظاهرة إسلامية سببها التعلق بالإسلام، ويحاول ربط ذلك بما حدث في أوروبا أيام عصر النهضة فيقول أن أوروبا حدثت فيها النهضة لأنها تحرّرت من سيطرة الكنيسة، غير أن ما أحدث النهضة هو الخيرات المادية التي تدفقت على أوروبا، حيث الغزوات الأوروبية كانت تنطلق لتأتي بالأطنان المطنّنة "بقناطير مقنطرة" من الذهب والفضة، وكان من نتيجة تراكم هذه الخيرات أن تمكّن المستعمرون من احتلال البلدان وحكمها وليس سلب خيراتها فقط! وهذه البلدان، المستعمرات السابقة، لم تستعد وعيها، ولا تزال ترزح تحت براثن الاستعمار غير المباشر، ولم تعرف إلى الآن ما معنى الاستقلال! نحن ما زلنا لا نعي كيف نكوّن الهويّة ونعيد ربطها بالتاريخ والتراث، ولذلك يجب أن نبدأ أولاً بتحرير الذات وربط الهوية بالتراث، بتراثنا الذي أبعدنا الاستعمار عنه وخلق قطعاً فاصلاً بيننا وبينه!

* * *

يقول الدكتور صليبا: في الغرب هناك استمرارية في ربط الإرث الثقافي والعلمي بالحياة اليومية من أجل استكمال الهوية، أما نحن فقد خسرنا هذه الاستمرارية، وحدث القطع الذي أفقدنا حسّ الهوية وحسّ الانتماء. لقد أصبحنا نتغنّى بأننا نقرأ ما ينتجه الغرب، وبالطبع يجب أن نقرأ ما ينتجه، ولكن يجب أن نقرأ تراثنا أيضاً، لكننا نقول أن هذا التراث عدا عليه الزمن، ويجب أن نفكر كما يفكر الغرب وأن نقتدي به لكي نبني شخصيتنا الحديثة على نتاجات العلم الحديث! وعندما نخلق هذا القطع بين المفكر وإرثه وتاريخه فلابد أن يكون الأمر سلبياً، وهذا ماحدث، فالاستعمار أنشأ طبقة مثقفة فقدت الهوّية الذاتية، وهي عندما تتلبس فكر المستعمر تدخل في دوامة معه دائماً لصالحه وليس لصالحها، وكما قال فرنسوا فانو: عندما يتخلق المستعمر بخلقية مستعمره يصبح نسخة مشوّهة عنه، وبالتالي لا تنتظر من هذا القتيل أن يبدي إبداعاً أو يأتي بجديد، فهو يسير كما يريد له مستعمره أن يسير!

يقول الدكتور صليبا: ظاهرة استخدام الدين لأغراض سياسية هي ردّة فعل على الظاهرة الاستعمارية. إن المجتمع الإسلامي كله، من المغرب إلى اندونيسيا، في حالة حرب قائمة تشتدّ ضراوة كل يوم، والوضع الذي نحن فيه لن ينتج إلا ردّة الفعل هذه، لدرجة أن نرى شاباً في مقتبل العمر مستعدّاً للتضحية بنفسه والقيام بعملية انتحارية لاستعادة شيء من احترام الذات! البعض يقول أنه مجنون أو مريض.. الخ، لكن أحد التفاسير يقول أننا فقدنا احترام الذات إلى هذه الدرجة، ووصل بنا فقدان الهوية، وفقدان السيطرة على مقدراتنا وثرواتنا، إلى حدّ فقداننا لقيمة الحياة! إن الظاهرة الانتحارية الخطيرة ليست بمعزل عن الغزوات الاستعمارية المستكلبة، التي لا تزال مستمرة في انتهاك حرماتنا وأعراضنا وبيوتنا وأملاكنا وثرواتنا! إن الصورة تبدو ظالمة ومظلمة جداً، فنحن بالفعل في براثن حملة استعمارية سوف يزداد احتدامها، لأنهم مهما يقولون أنهم سيصبحون في غنى عن البترول والثروات الطبيعية الأخرى، فإن هذا غير حقيقي، وما دامت هذه الثروات غير مسيطر عليها من قبل شعوبها فإن الاستعمار بقوته العسكرية سيستولي عليها.. إنه صراع سياسي اقتصادي استعماري وليس صراع حضارات أو أديان!

* * *

يقول جورج صليبا: أتظنون أن جورج بوش لا يتكلم بخطاب ديني؟ عندما سئل عام 2000، أثناء حملته الانتخابية، من الذي يرشدك وتستقي منه معلوماتك؟ أجاب: يسوع المسيح! إن الصراع يحتدم بهذه الصورة، وسيحتدم أكثر، لماذا؟ لأن مصادر الثروة وكمية البترول تتناقص كل يوم، وكلما تناقصت ارتفعت الأسعار، وكلما ارتفعت الأسعار احتدم القتال، وذلك كله يحدث في ظلّ سلب الشعوب قدرتها على تكوين شخصيتها القومية، وهكذا لا يبقى ما يحركها إلا الشعور الديني! في الولايات المتحدة يصوّت في الانتخابات 46% من الشعب لأسباب دينية، ففيها الآن ما يدعى بالحزام الديني المكوّن من ولايات يسيطر عليها المتدينون الذين يتحكمون بالسياسة الآن، وقد انتخبوا بوش لأن الله اختاره كي يكون في البيت الأبيض كما يقولون! إن مثل هذا القول لا يختلف عن قول أسامة بن لادن، بل إنني أظن ابن لادن أكثر اعتدالاً، لأنه يطرح أحياناً تساؤلات ذات معنى سياسي، فيقول: إننا لم نهاجم ولن نهاجم دولاً مثل السويد والنرويج! ومعنى ذلك أن المسألة ليست دينية. نحن نقول إننا نقاتل لأسباب سياسية، لكن الغرب يقدّم الصورة على أنها صورة صراع ديني، فلماذا يفعل الغرب ذلك؟ لأن الصراع الديني لا حلّ له، ولأن تحويل الخطاب إلى ديني يصوّر كل المسلمين بفكر واحد لا يمكن أن يكون معتدلاً، فتقوم الحرب ضدّ الإسلام والمسلمين عامة!

لقد تحوّلت الحرب من المنطق السياسي إلى المنطق الديني الذي لا حلّ له، ولنأخذ مثلاً ما حدث في العراق، فالعراق على مدار تاريخه كله لم ينتخب نواباً لأنهم من هذه الطائفة أو تلك ومن هذه القومية أو تلك، وعندما أتت القوات الغازية لتحقيق الديمقراطية في العراق، فإن هذه الديمقراطية صنّفت العراقيين بناء على المعتقدات الدينية والفروق الجنسية والعرقية في البلد، فيصبح النائب الذي تنتخبه الطائفة ممثلاً لطائفته ومختلفاً مع الطوائف الأخرى جذرياً! ومثل هذه الأمور التي لا حلّ لها تلغي الخطاب السياسي وتضع البلد في تناقض مستمر دائم.. الخ!

* * *

لقد عرضت بعض ما جاء في حديث الدكتور جورج صليبا من تحليلات صائبة واستنتاجات حرة، مستقلة، أراحني الاطلاع عليها في هذه الحقبة التي قلّ أن نسمع فيها غير الضجيج والهذيان، وأودّ أن أضيف إلى ما قاله أن القوميين والاشتراكيين والليبراليين في بلادنا وقعوا دائماً في مصيدة التمييز بين التقدّم المادي (الحضاري) لأوروبا الغربية والولايات المتحدة وبين سياساتها الاستعمارية، مع أن مثل هذا التمييز ليس ممكناً أبداً، بسبب النزوع عن عقيدة سياسية إلى احتكار العلوم والثروات، واستبعاد العدالة الدولية نهائياً، أي أن تقدّمهم اشترط وما زال يشترط تخلفنا، وقد أشار الدكتور صليبا إلى نهب المستعمرات وإذلالها، وإلى القناطير المقنطرة من الذهب والفضة التي حققت النهضة الأوروبية، كذلك فإن الإسلاميين في بلادنا ميّزوا دائماً بين عالم أوروبي أميركي وآخر إسلامي، مع أن مثل هذين العالمين لا وجود لهما، حيث العالم القائم هو عالم واحد متكامل يشتمل على جميع البلدان في جميع القارات، بما فيها البلدان الإسلامية، فهو يحتويها كلها، مدخلاً قوتها البشرية والاقتصادية في صلب قوة الغرب، ومدخلاً إداراتها ومثقفيها ومفكريها وأدبائها وفنانيها عموماً في صلب إدارته وثقافته وفكره وأدبه وفنه، إنما لصالحه دائماً وليس لصالحها أبداً، سواء أعجبها ذلك أم لم يعجبها، وطوعاً أم كرهاً!