بعد مساهمة كل من رغيد الصلح وعدنان الأمين وسناء ابو شقرا وجوزف ابو خليل وسليمان تقي الدين، اليوم يساهم نواف كبارة:

ان المشكلة الرئيسية في الممارسة السياسية للطائفية في لبنان انها تستند الى لعبة تصارع على السلطة والنفوذ شبيهة بلعبة الامم في ما بينها اكثر بكثير من كونها صراعاً سياسياً بين تيارات مختلفة محكومة بضوابط محددة دستورياً وتخضع لسقف الانتماء لهوية واحدة جامعة. والواقع ان غياب هذه الهوية الجامعة هو معضلة المعضلات في الحالة اللبنانية وهو الذي يفسح المجال امام كل طائفة في التحرك وكأنها تركيبة سياسية شبه مستقلة في حركتها وولاءاتها السياسية والثقافية عن باقي الطوائف اللبنانية.

ولعل تاريخ هذه الحركية ابتدأ مع تشكل الطائفة المارونية في القرن التاسع عشر ككيان اجتماعي وسياسي له ذاتيته الخاصة وارتباطاته الثقافية والاقتصادية المستقلة عن الحركة العامة في المنطقة، وليؤكد خياراً سياسياً واضحاً خارج المنحى العام الذي سارت عليه المنطقة بعد سقوط الدولة العثمانية، الا وهو خيار الانتماء الى الغرب ثقافياً وسياسياً والترابط معه اقتصادياً.

وجاء اعلان دستور دولة الاستقلال عام 1943 ليعكس توازن القوى القائم آنذاك بين هذا التيار السياسي الماروني الصاعد والتيار العروبي الجامح في المنطقة ضد الاستعمار والهيمنة الغربية والساعي الى تحقيق ارادة الوحدة العربية. فتم الاقرار ان لبنان ذو وجه عربي دون ان نعرف بالتحديد الوجوه الأخرى للبنان وتالياً فان الوطن اللبناني ابتدأ مسيرة حياته السياسية بحالة من غياب الانتماء الواضح وبحالة من حالات انفصام الشخصية مما خلق شخصية وطنية مسكونة بمجموعة ولاءات تضعها في حالة دائمة من عدم الاستقرار والعدوانية والسعي لحسم هذه الولاءات في انتماءٍ واحد اما دمجاً او تقسيماً ولكن من دون جدوى.

وجاءت الحرب اللبنانية 1975-1990 لتعمم التجربة المارونية وليخرج لبنان بحالة تشكيل سياسية شبه كاملة لكل الطوائف اللبنانية. فأصبح لكل طائفة تكتلاتها واحزابها السياسية الى جانب مؤسساتها الاجتماعية والتعليمية وحتى العسكرية الخاصة بها. فبينما كان الحزب التقدمي الاشتراكي ما قبل الحرب يسير في اتجاه ان يكون حزباً جامعاً لقوى وشخصيات من كل الطوائف اللبنانية تحول في فترة ما بعد الحرب الى حزبٍ درزي بامتياز ضمن اطر جغرافية محددة ومترابطة. وهكذا هو الامربالنسبة لـ"حركة امل" التي تحولت من كونها تياراً سياسياً ضد الطائفية ومدافعاً عن مصالح القوى الطبقية المهمشة في المجتمع اللبناني كما دعا مؤسسها الامام موسى الصدر الى حركة شيعية تتنافس من اجل الهيمنة على القرار السياسي الشيعي وطنياً ومناطقياً مع حزبٍ شيعي أكثر تنظيماً وأمتن ايديولوجياُ الا وهو "حزب الله".

وجاء "تيار المستقبل" ليرث كل التنظيمات السنية العروبية واليسارية والتقليدية وليضع هذه الطائفة في اطار سياسي محمي بشبكة مؤسسات اجتماعية وتعليمية واقتصادية واعلامية يخدم مصالح صاحب التيار وتوجهاته السياسية. بناء على ما سبق تبدو الحالة اللبنانية وكأنها تقوم على تكتلات مغلقة على بعضها البعض، تجمعها جغرافية الوطن ووحدة مؤسسات الدولة والاقتصاد، وتفرقها جغرافيا المناطق والمصالح الخاصة بكل مجموعة سياسية ولكل طائفة. ولعل الحالة الطائفية في لبنان وصلت الى قمة حركتها السياسية واصبحت امام ثلاثة خيارات اساسية: انحلالها لمصلحة هوية وطنية جامعة، أو التقسيم على اساسٍ طائفي واضح، أو تنظيم اللعبة السياسية على اسس المصالح الطائفية بشكل فيديرالية معلنة أو مقنّعة، بمعنى ادارة لعبة مصالح الطوائف من طريق تحديد حصتها في الادارة المشتركة للدولة والمناطق التي تتحكم فيها بالقرار.

الا ان المنحى الذي ستسير فيه الامور يتوقف على معطيين رئيسيين. الاول هو الحركة السياسية في المنطقة، والثاني هو حركية اللعبة السياسية المحلية ضمن اطار اللعبة الديموقراطية اللبنانية. ففي المعطى الاول يمكننا القول ان لبنان يتأثر بقوة بالسياسات والتغييرات التي تعيشها المنطقة، اذ ان التركيبة الطائفية المفتوحة لمصالح الآخرين تجعل من الصعب جداً ايجاد المناعة ضد ما يحدث في المنطقة. ولعل ذلك هو السبب الرئيسي لعدم قدرة هيئة الحوار الوطني الوصول الى أي نتائج حقيقية. فكل الفئات التي تتحاور لا تستطيع ان تخرج عن حدود مصالح ارتباطاتها السياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية مع الجهات والدول التي تؤمن لها القوة والاستمرار في تركيبتها الطائفية المغلقة.

من هنا فان عدم نضوج مشروعي التقسيم والانصهار الوطني على الساحة العربية يثبت خيار الادارة الطائفية للدولة ولعبة تقاسم الحصص. الا ان ما يمكن ان يمنع هذ اللعبة من النجاح والتمركز هو طبيعة اللعبة الداخلية في لبنان. ان الشرط الرئيسي لنجاح لعبة الادارة الطائفية للبلد هو ضبط الحركة السياسية داخل كل طائفة لمصلحة سياسات الفئة المهيمنة، وهي تجربة عاشها لبنان السياسي خلال الحرب، اذ ان هذا الضبط يتطلب هيمنة ديكتاتورية داخل كل طائفة لا يمكن ان تثبت الا بالقوة والارهاب وهو امر مستحيل في ظل لعبة ديموقراطية مفتوحة. ان طبيعة اللعبة الديموقراطية اللبنانية تفسح المجال امام حالتين: الاولى هي البروز الدائم لتشكيلات سياسية مناهضة لهيمنة التيار أو الحزب المسيطر داخل كل طائفة أو منطقة، والثانية هي التدخل الخارجي باشكاله المختلفة في اللعبة الديموقراطية اللبنانية.

بناء عليه فان الخطابات السياسية لا يمكن ان تقوم الا على خيارين رئيسيين وهما اما نقد الادارة الطوائفية للبلد لمصلحة الوحدة وإما انتقاد ادارة مصالح الطائفة والمنطقة من قبل الفئة المهيمنة في اتجاه المطالبة بتحسين حصة الطائفة والمنطقة في لعبة توزيع الحصص داخل الدولة للطوائف والمناطق. ففي الخيار الاول يستند خطاب الوحدة على المشروع الرومنسي لهوية لبنانية جامعة فوق الطوائف واقوى منها. اما الخيار الثاني فيؤكد الهوية الطائفية ويتطرف في التعبير عنها.

من هنا فان الانقسامات السياسية داخل الطوائف والتي تسمح الديموقراطية بالتعبير العلني عنها تفسح المجال امام الحالة الطائفية ان تتحرك بكل الاتجاهات اذ لا يمكن التيارات السياسية المهيمنة الا ان تتأثر بالحركة السياسية للقوى التي تنافسها والعكس صحيح. ولعل النتائج تتوقف على جدية المشاريع المطروحة وواقعيتها وطبيعة القوى الخارجية والداخلية التي تدعم المشاريع المطروحة أو تناهضها. فاذا ما اخذنا الواقع السياسي الراهن وأجرينا تحليلاً للحركية السياسية للطوائف الثلاث الاساسية في لبنان يمكننا الخروج بالتحليل.

تبدو الساحة الشيعية شبه مغلقة لمصلحة الانغلاق الطائفي لسببين جوهرين: الاول هو صعود المشروع السياسي للشيعة في المنطقة وبالتالي فان المطلوب دعم صعود هذ الهوية السياسية وليس استبدالها. اما الثاني فهو الشعور بان التخلي عن سلاح المقاومة هو اضعاف او حتى انقضاض على مركز القوة الرئيسي للطائفة بغض النظر عن تناقض هذا السلاح مع مشروع بناء الدولة.

من هنا فان الانقسام السياسي داخل الطائفة سيحدث حتماً لمصلحة مشروع الدولة والوحدة الوطنية اذا نجحت الظروف الخارجية والمحلية في جعل هذا الانقسام خياراً حقيقياً. اما الساحة السنية فتعيش حالة فريدة من الاصطفاف نتيجة اعتبار ان زلزال اغتيال الرئيس الحريري قد ضربها اولاً، ولا بد من تجميع القوى لوقف تداعياته. الا انه بعكس الحالة الشيعية فان توجهات القوى المهيمنة على الطائفة هو لمصلحة مشروع اللبننة كنتيجة طبيعية للظروف السياسية التي انتهت باغتيال الرئيس الحريري. ومن هنا فان التيارات المناهضة داخل الطائفة هي اما لتصحيح توجهات هذا الخيار او لتغييره بالكامل. أما الساحة المارونية فتبدو مفتوحة على خيارين اساسيين: سيقوم الاول على خطاب تثبيت الادارة الطوائفية (والفيديرالية) للبلد ويسعى في حركته السياسية الى تحسين موقع الطائفة في هذه اللعبة وهو الخطاب السياسي لـ"القوات اللبنانية".

أما الخيار الثاني فهو يقوم على استراتجية تعمل لعودة الحالة السياسية للطائفة لسابق عهدها من القوة السياسية، ولكن من خلال خطاب يقوم على تخطي الحالة الطائفية في اتجاه الوطن وهو خطاب "التيار الوطني الحر". من هنا تأخذ الوحدة الوطنية معنى متقدماً في هذا الطرح بمعنى الحركة في اتجاه المواطنة والانصهار الوطني. ونظراً الى ان هذا التيار خرج الاقوى في الانتخابات النيابية الاخيرة ضمن الطائفة فان الحركة السياسية المناهضة هي لمصلحة التخفيف من هذه التوجه أو رفضه كلياً.

بناء على ما سبق لا يمكن الاستنتاج ان الانقسامات السياسية داخل كل طائفة هي بالضرورة لمصلحة الوحدة الوطنية بل يفتح المجال لكل الاحتمالات في الخيارات السياسية ضمن كل طائفة بين الطوائف.