تآخى محمد الماغوط مع الفقر والشقاء. تقبّل احكام التشرد. وحوّل غربته في بيروت الى وطن معشوق ومتنقل. سامح نفسه على خطئها في حق نفسه. وهذا افظع الارتكابات في الدنيا. وسامح اصدقاءه. وسامح الضعف البشري في كل مكان. لكنه لم يغفر للفاتك الذي اهان كرامته. لم يغفر للسجان. لم يغفر للرجل الذي يرمي الشعراء في السجون، كما يرمي القطط الجائعة من النافذة.

تصالح كتّاب عرب كثيرون مع السجن، حيث رميوا في الزنازين المرعبة او القواويش المذلة مع الحرامية والسراقين والقتلة والمحتالين وحثالات المجتمع. وعاش هؤلاء بقية اعمارهم ينسون ما حدث، او يروون ذكريات السجن في باب الطرائف والنكات. لم يغفر محمد الماغوط للأمة ثقافة السجون. عاش حياته يتطلع خلفه خوفاً من تكرار المذلة. كانت ترعبه فكرة وقوع الشعر في يد الشرطة، وسقوط الفكر في افخاخ العسس والجلادين وثعالب الحريات.

اعطته الدولة السورية الامان بعد محنة السجن. وكرّمته. واحاطته. لكنه لم يطمئن ولم يكفّ. ولم ينسَ. كل شيء يهون إلا الاهانة. وهو، كما قالت الشاعرة خالدة سعيد، كان بدوياً. والبدوي لا ينسى. فقط يتعلّم من عذاباته ما يريد، ومن ذكرياته ما ينتقي، ويرمي اليباس على جانبي الطريق. لكن الاهانة لا تقلّم ولا ترمى. انها مغروسة في الجبين، يطغى ظلها على العينين كلما طال النهار.

كتب القصائد الجميلة في كل شيء، وحوّل السجن الى ملحمة. شعر انه ابتز منه شيئاً لا يستّرد ولا ينقل ولا يعاد صنعه. ولذلك امضى حياته يحقّره وينتقم منه. ونام الرفاق على وسادة الحرية الخاوية ورفض هو ان يغفل. وجعل من شعره الندي العسلي الموسيقي ومن نثره الحاد الناصل، غضبة دائمة على شرطة الاهانات. وغفا الجميع إلا قلائل عن ثقافة السجن السياسي. وتمرّد عليها في القصيدة محمد الماغوط وفي الرواية صنع الله ابراهيم ومصطفى امين، وعقد الآخرون عقد مصالحة مع السجان. مرة قال خليل حاوي عن جبران خليل جبران ان ما يكتب عن سيرته اكبر بكثير مما يكتب عن ادبه. والماغوط كان شخصية الياذية بطولية ساحرة، سيرتها هي الشعر وبؤس هو المسرح. وظل يلاحق سجانه حتى الموت. انه ذلك الشرطي الذي حمله على القول: «سوف اخون وطني».