عبد اللطيف مهنا

يبدو أحياناً، ومن أسف، أن قدر عالمنا الراهن أنه سوف يظل منشغلاً، شاء أم أبى وإلى حين، بكل ما هو أمريكي... وعندما نقول ما هو أمريكي، لا نستثني مما نعنيه أو من هذا المسمى شيئاً... من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الثقافة، الهوليودية تحديداً، إلى آخر ما ينتج هناك من الصرعات العجائبية... ودون أن ننسى طبعاً، آخر ما يتم التوصل إليه من مبتكرات التكنولوجيا، وصولاً إلى الببسي كولا والوجبات السريعة الرديئة... وهكذا، وحتى نصل إلى تجليات لوثة الاستباقية وبعض جنون الجموح الإمبراطوري لدى الإدارة الأمريكية الحالية... واستطراداً إلى آخر ما عودتنا عليه هذه الإدارة من متوالية اكتشافات فضائح أكاذيبها السياسية الذرائعية التي لا تنطلي غالباً على ما عدا الأمريكان لتعود فتتكشّف أو تُكشف لهم لاحقاً... لماذا؟

لأنه، وبكل بساطة، علينا الاعتراف، بأن عالمنا اليوم الذي ابتلى بأحادية القطبية الكونية الأمريكية بعد زوال ثنائيتها بزوال الاتحاد السوفييتي وانتهاء ما عرف حينها بالحرب الباردة، وجد نفسه وجهاً لوجه مع قوة كونية هائلة القدرة والإمكانيات، يجافي قوتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية غير المسبوقة في التاريخ، أو لا يوازيها، ما يتناسب معها، أو ما يستوجب، من مسؤولية أو حتى من عقلانية مفترضة. وهذه القوة، وهذا حالها، وجدت بدورها نفسها تنفرد وحدها بقرار هذا العالم، دونما حسيب أو رقيب أو رادع. بل حتى بمساعدة قد لا تطلبها من متبرع هو إما ذيل لها أو تابع أو ملتحق أو منافق أو منتهز أو حتى مدارٍ خائف، وهذا كله يتم تحت مسميات يعطيها المتبرع لنفسه من طرف واحد، مثل متحالف أو صديق، أو منسجم مع متطلبات ما يدعى "الرأي العام الدولي" المعبر في حقيقته عن ذاك التفرد الذي بلغ حداً من الفجاجة يئن هذا الأونه منها هامساً عالمنا، وقد لا يمضي كثير وقت حتى يرفع صوته صارخاً متوجعاً... وعليه، كان من المنطقي أن تظل أخبار هذا العملاق المتضخم العضلات المتسمة تصرفاته، وهو الممسك بزمام العالم، بكثير من الرعونة، مدار اهتمام العالم، سواء أكبرت أخباره أم صغرت، عظمت أم هزلت، لأن حتام أن لها، ومهما كان تصنيفها وفي أي حقل من الحقول التي سبق سردها، ما سيكون من أثر أو تداعيات لا تلبث أن ترخي بظلالها أو يتردد صداها في جنبات الكون الأربع...

على سبيل المثال لا الحصر، العالم اليوم منشغل بما تجود به قريحة الرئيس جورج بوش الابن أو ما قد يخطر بباله، أو توحي إليه إلهامات أيدلوجيته الخاصة، بأن يقوله في جولاته الدعاوية، ذات اللون والطعم والرائحة الواحدة، في مختلف الولايات الأمريكية مؤخراً، في محاولة منه لترميم شعبيته التي وصلت في تدنيها، كما تقول المصادر الأمريكية نفسها، إلى مرحلة ما قبل حضيضها بقليل، خصوصاً وأن موعد الانتخابات التشريعية القادمة المقلقة توقعاتها للحزب الجمهوري، نظراً لتخبط وفشل سياسات الإدارة الخارجية والداخلية، أو ارتفاع كلفتها وهزال مردودها وتراجع مصداقيتها بل شبه انعدامها، قد اقتربت...

لكن العالم، بالإضافة إلى قائمة انشغالاته الأمريكية الدائمة هذه، يجد نفسه منشغلاً، ربما إلى حين، بمتابعة جديد فضائح المركز الكوني، التي قد توحي تداعياتها حتى الآن بأن الأمريكان سوف ينشغلون بها، أقله حتى موعد تلك الانتخابات، هذا إذا لم تعززها أو تطغى عليها فضائح أخرى من عيار أكبر حجماً تذهب بريح هذه الإدارة، كما يتوقع أو يتمنى لها البعض... وآخر هذا الجديد أن مساعد الرئيس السابق لويس ليبي... المستقيل إثر انكشاف فضيحة كشفه أو تسريبه اسم عميلة للسي آي ايه، هي فاليري بلايم، للصحافة انتقاماً من زوجها السفير السابق جوزيف ولسون الذي شكك في امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل... قد حسم أمره، وبعد تحمل تلك المسؤولية وحده كل هذا الوقت الذي انصرم، كشف عن وثيقةٍ تؤكد أنه ما كان ليقدم على فعلته تلك إلا بإيعاز من نائب الرئيس ديك تشيني وبموافقة مسبقة من الرئيس نفسه... أما لماذا كان هذا، الإيعاز بعد تلك الموافقة ومن ثم التسريب، فليس إلا لانتقام يراد من زوج العميلة الذي تجرأ فعارض غزو العراق كاشفاً أو محاولاً الكشف في حينه عن زيف إحدى ذرائعه أو ذريعته الأولى...

قد يقول قائل: وماذا تعني هذه الواقعة الجديدة في مسلسل فضائح لا ينقطع، أتى بدوره على جملة، أو على مسلسل آخر، من الذرائع التي سيقت لتبرير غزو لا يبرر، والتي تساقطت واحدتها تلو الأخرى، دون أن يرمش أو يرف للإدارة الأمريكية جفن، بل إنها درجت على استبدال ما يسقط من ذرائعها الزائفة بما يبتكر مما يخلفها لتعود فتبتكر ما يحل محلها، وهكذا، حتى كاد أن ينقطع حبلها، وإن لم ينقطع بعد حبل الكذب... مثلاً، بداية كانت ذريعة أسلحة الدمار الشامل، وحيث لم يعثر عليها بعد الاحتلال، عززت بتهمة التعاون مع القاعدة، وحيث لم يعثر على دليل واحد على مثل هذا التعاون المزعوم، رُفع شعار دمقرطة العراق ليغدو مثالاً يحتذى في سائر المنطقة... والآن وبعد ثلاثة أعوام من الغزو وتدمير كل الأسس التي قامت عليها بنى الدولة العراقية، وبعد رعاية أو فرض دستور أقل ما يقال فيه أنه وصفه ل "الفوضى البنائة"، أو القوننة المبيتة لتقسيم البلاد إثنياً وطائفياً، وبعد أكثر من أربعة أشهر على رعاية انتخابات تنسجم مع ما يراد من هذا الدستور، تتجشم وزيرة الخارجية كونداليسا رايس، مع زميلها البريطاني وحليفها في الغزو جاك سترو عناء السفر إلى بغداد في محاولة للملمت تداعيات هذه الانتخابات، أو وفق المعلن، حثّ القوى التي أفرزتها على مجرد التوافق على اسم رئيس وزراء يريدانه لعراق ما بعد الغزو، بعد أن فشلت حتى الآن جهود بُذلت للتوافق حتى على موعد لانعقاد المجلس الذي أفرزته صناديقها تحت حرابه، بل بات يخشى ليس تدارك بوادر انشقاقات ائتلافاتها البادية فحسب، بل حتى عدم القدرة على الحؤول دون احترابها... قال سترو في بغداد: "لا يمكننا التعامل مع السيد لا أحد، وهذه مشكلة"!

...والآن، وبعد ثلاثة أعوام من الغزو، وبعد سقوط كل ذرائعه، وغرق العراق بسبب منه في حمامات من الدماء التي تراق برعايته، تطلع علينا صحيفة "نيويورك تايمز" لتعترف أو تعيد ما اعترف به كثير من المسؤولين الأمريكيين، بمن فيهم أحد أهم دعاة الحرب ووزيرها رامسفيلد، عندما تقول أن العراق اليوم يغرق في الحرب الأهلية... لكنها، وهذا هو الجديد، تزيد فتقول: وإن الولايات المتحدة تخجل من احتلالها له!

نيويورك تايمز، طبعاً، لم تقل لنا من هو المسؤول عن ما دعته غرق العراق في الحرب الأهلية، أي لم تشر للاحتلال إلا في سياق تأذي صورة الولايات المتحدة منه، وإحساسها بفشل المشروع الأمريكي هناك جراء توالي تعثره، الأمر الذي يزيد من كلفة الورطة الأمريكية المستفحلة التي يفاقمها تضحيات الشعب العراقي الرافض للخضوع وعناد مقاومته المتصاعدة... أي إن الصحيفة، على الأغلب، تسجل أن الأمريكان قد بدأوا يخجلون من تعثر وفشل ما كانوا لا يتصورون فشله... كما أنها لا تعني قطعاً بهذا الذي تسجله الإدارة، وإنما تعني نخباً ثقافية في المقام الأول وسياسية في المقام الثاني، وشرائح شعبية لا ترى لها مصلحة في حروب بوش الاستباقية، وهي قطاعات بدأت تتسع وتزداد مناسيب معارضتها لكلفة بقاء جيوش بلادها في العراق البشرية والمادية، لكن لا أحد، مع بعض استثناءات هامشية حتى الآن، يتحدث عن مسؤولية الاحتلال في كل الكوارث التي لحقت أو ستلحق بهذا البلد المنكوب به... اللهم إلا لماماً أو مواسماً، كتسريبات فظائع "أبو غريب"، أو "غوانتنامو"، التي تم تعويد العالم على مثلها... ومن ذلك أيضاً، سجون الاختطاف الطائرة عبر موانئ العالم التي تحدثت عنها مؤخراً تقارير لجان حقوق الانسان الدولية... وهي أمور سرعان ما يطويها النسيان، أقله في الشارع الأمريكي...

لكن العالم لا يملك إلا أن يرقب باهتمام أكبر تداعيات المأزق الأمريكي الذي تتبرم منه "نيويورك تايمز"، وإن يلاحظ مذعوراً أمرين:

الأول، أنه ومع ازدياد المأزق، تزداد وتيرة الوعد والوعيد وسوق المزيد من التبريرات دونما الالتفات إلى مدى مصداقيتها، ويندفع العتاة الأقوياء المأزومون هروباً إلى الأمام، وعندما يتأكد لهم الفشل أكثر فأكثر يزداد تخبطهم، ومن ذلك مثلاً: اعتراف الوزيرة كونداليسا رايس المدوى مؤخراً بأن بلادها ارتكبت آلاف الأخطاء التكتيكية في العراق، لكن مع مفارقة تأكيدها في نفس الوقت على صوابية القرار الاستراتيجي لغزوه... والأدهى أنه لم يمض وقت حتى رد عليها مستغرباً زميلها وزير الحرب رامسفيلد، الذي هو أول من يصيبه رذاذ هذا الاعتراف بهذه الأخطاء الآلاف، قائلاً: "بكل صدق، لا أعرف عما كانت تتحدث... إذا تحدث أحد عن خطأ تكتيكي، اعتقد أنه يتعلق بنقص في التفهم"!

بالمناسبة الحرب الأهلية المراد اندلاعها في العراق ليست ولن تكون ناجمة عن أخطأ تكتيكية وإنما كنتيجة متوخاة لمخططات مدروسة، وهذه تأتي في سياق تعزيز تبريرات تواصل الاحتلال وتمكينه وإدامته. كما أن الهدف الاستراتيجي ليس هو المعلن أو آخر المزاعم، أي دمقرطة العراق، أو بالأحرى ابتلائه بديمقراطية التفتت والتمذهب والائتلافات المتناحرة قيد التحكم وتحت خيمة المحتلين وبإشرافهم، وإنما كان وسيظل وضع اليد على سرة العالم نفطاً وأسواقاً وجغرافية استراتيجية، الأمر الذي يمكّن واضعها من وضعها بالتالي على عنق العالم، وبإمساكه بتلابيبه يتمكن من ثم من إدامة التفرد بقراره أطول مدة زمنية ممكنة...

والآن ماذا يقول الرئيس بوش نفسه في جولاته الدعاوية المعترضة على تدني شعبيته، أو مواجهة ازدياد مساحة الخجلين من تداعيات سياساته الكونية في الشارع الأمريكي... وهذا هو الأمر الثاني:

يقول: "من الأفضل لأمريكا أن تبقى دوماً في حالة هجوم... في موقع الهجوم... والطريق الأمثل هو أن نحشد كل مكامن القوة لدينا وأن نبقى في حالة هجوم على العدو..."!

أي، أنه لا عودة بالنسبة له عن هروب إلى الأمام، بل إيغال فيه... أما هذا العدو فيشخصه على طريقته، عندما يقول:

"إن التهديد الأكبر الذي يهدد أمريكا هو اللحظة التي يلتقي فيها الإرهاب مع أسلحة الدمار الشامل"... وحيث أن هذا الإرهاب غير المعرف أو الممنوع من التعريف دولياً، هو عدو غير مرئي يمكن مصادفته، أو حتى إيجاده عند اللزوم، في أي بقعة من العالم، وإن أسلحة الدمار الشامل في ظل البلطجة الاستباقية، وتعميم الرعب أو عولمته أمريكياً عبر اعتماده وسيلة لإخضاع العالم، قد غدا مطمحاً مشروعاً لأية أمة تريد حماية نفسها في عالم ألحقت فيه "الشرعية الدولية" بالبنتاغون، فيمكن تصور أنه لا نهاية ممكنة للتهديدات المزعومة التي تواجه أمريكا من التقاء هذين الخطرين المفترضين... لكن الرئيس الأمريكي، الذي يبشر الأمريكيين بأن "المعركة صعبة لأن العدو يحاول كسر إرادتنا"، ويشكو لهم بالتالي قائلاً: "أنا قلق لأن العدو يستطيع التأثير على آرائكم"، لا يني يجسد لهم هذا العدو عندما لا يجد بأساً في أن يصارحهم: "أنا لا أعبأ بما يقوله الزرقاوي، بل بما يقوله الذين يتوجهون إلى صناديق الانتخابات"!!!

ربما لن يتمعن الأمريكان كثيراً باحثين عن الحقيقة في ما يرسم حول مثل هذه الشخصية الأقرب إلى الخرافية، كما قد لا يلتفتون إلى أن رئيسهم لا يعبأ أيضاً بما يقوله اللذين يتوجهون إلى صناديق الانتخابات... أي أنهم لن يدققوا في موقفه الراهن من نتائج الانتخابات الفلسطينية مثلاً، والذي تترجمه إدارته وحلفائها الأوروبيين محاصرة شاملة للسلطة التي نجمت عنها، وعقاباً للشعب الذي انتخبها، عبر تجويع معلن له، تتزامن مع توالي ارتكاب المجازر الإسرائيلية اليومية بحقه... وأخيراً رعاية الإدارة وحلفائها عبر الضغوط المباشرة وغير المباشرة لمشروع قديم يتجدد لحرب أهلية فلسطينية لتغذية المساعي، وموضوعياً فرض الإملاءات، بما يدفع باتجاه توسيع ما يوصف بصلاحيات رئيس بلا دولة لتبتلع صلاحيات رئيس وزراء لسلطة بلا سلطة... ولكن المهم هو قول بوش:

"العراق هو جزء من الحرب الكونية على الإرهاب"... و "لو لم أكن أعرف أننا سننتصر لسحبت جيشنا من العراق"...

أي أن كلام الرئيس هذا، يعني التبشير باستمرار حربه الكونية عبر العالم، وليس في العراق فحسب، وربما إلى ما لا نهاية، وإن احتلال العراق، لن يشهد نهاية منظورة إن لم يطرد العراقيون المحتلين، حتى لو توافق المؤتلفون على رئيس حكومتهم ... أو كما سبق قوله من أنه سوف يترك موضوع الانسحاب من هذا البلد للرؤساء الذين سيحلون في البيت الأبيض من بعده... بالمختصر، كلام يعني أن لا نية لدى المحافظين الجدد في واشنطن في تخل محتمل عن الاستراتيجية الكامنة وراء مجمل الحركة الإمبراطورية الأمريكية الساعية لليّ عنق العالم وتمديد فترة التحكم في قراره، أبعد فترة زمنية ممكنة...

الأمر الذي يعني تفسيراً جامعاً مانعاً لسر انشغال العالم، شاء أم أبى، بكل ما هو أمريكي... لا سيما تجليات لوثه الجموح الإمبراطوري التي تلوح بوارقها بين الفينة والأخرى من البيت الأبيض... ومعها احتمالات تداعيات ماوصفته "النيويورك تايمز" بالخجل الأمريكي منها... ربما لأن العالم، وليس هذا الجزء العربي منه فحسب، يدرك أكثر فأكثر أن نجأته رهن بفشل المشروع الأمريكي في العراق، وبدأ يعتقد بأن أهم ضمانات هذه النجأة، إلى جانب مقاومة الشعب العراقي للاحتلال، قد تكمن وراء ما يبدو من بوادر تبشّر بذلك الخجل الشعبي الأمريكي، الذي لا شك أن هذا العالم يتمنى أن يسير منسوبه مع الأيام إلى ازدياد!