لي قريب عجوز يستحق أن يصنف على يمين دونالد رامسفيلد، كان معجباً بأميركا وكل ما هو أميركي حتى في عز أيام الاتحاد السوفياتي وذكريات الـ«سبوتنيك» ويوري غاغارين وصولاً إلى «ربيع براغ» يوم أمطرت السماء دبابات.

وإن نسيت فلا أنسى جدلاً محموماً دار بينه وبين قريب آخر، «أحمر الهوى» متحمس لكل الرفاق البلاشفة، في إحدى العشيات الصيفية في قريتي الوادعة. فبعد جدل عبثي طويل حاول القريب اليميني حسم الجدل بـ«الضربة القاضية»، فقال بلهجة الواثق: «... يا حبيبي ما لنا وما للمكابرة... علينا بالنتائج. فهذا الاتحاد السوفياتي الذي تعشقه لا يصنع ما هو أفضل من سيارة الموسكفيتش بينما تصنع أميركا سيارات البويك... وأنا شخصياً أفضل البويك على الموسكفيتش!».

قد لا تقاس كل الأمور بمثل هذه البساطة وسط تعقيدات السياسة وغيومها المتلبدة، لكن لا شك أن النتائج مهمة، بل مهمة جداً، لتقييم المنطق السياسي وممارسات السلطة وأداء التنظيمات التابعة لها وصواب طروحاتها وخطابها وثقافتها.

صحيح، مرّت «العروبة»، كهوية ثقافية تجمع غالبية نسبية من سكان ما بات يعرف بالعالم العربي، بفترات مد وجزر عبر القرون. وبلغ ضعفها أحياناً إبان ما عرف بـ«عصر الانحطاط» حد التفتت وضياع شرعية السلطة، حتى لم يعد من وجود للخلفاء سوى الخطابة باسمهم على منابر المساجد، في حين انتقل القرار السياسي والعسكري الفعلي إلى أيدي حكام وولاة وقادة متسلطين من غير العرب.

لكن الصحوة العروبية الكبرى الأحدث جاءت ردَ فعلٍ على نزعة «التتريك» التي رعاها بعض «الإصلاحيين» والراديكاليين في أواخر العهد العثماني. ولا شك أن هذه الصحوة لقيت دعماً قوياً من القوى الغربية المتعجلة تقسيم العالم الإسلامي وإضعافه قبل نهاية القرن الـ 19. وبطبيعة الحال تلاقت المصالح ووفرت الظروف الموضوعية والوعود «العرقوبية» الغربية ضرب الحالة العثمانية وبزوغ الحركات القومية العربية.

الواقع أن عدة حركات لا حركة واحدة رفعت لواء العروبة، ولا سيما في بلاد الشام. ولكن بعد سلخ لواء الإسكندرونة، ثم «نكبة فلسطين» اكتسب الحلم القومي صفة «المعجّل المكرّر» انطلاقاً من ضرورة تجسيد الطموح بعمل ميداني يسرّع القفز إلى السلطة تمهيداً لإنجاز التحرير.

وحقاً، بعد 1948 بدأ العد التنازلي لـ«العروبة» الأبوية والنخبوية التقليدية، وانطلقت الدعووية الحركية داخل ثكنات العسكر. وفي هذا المجال كان حزب البعث العربي الذي أسس عام 1947 (خاصة بعد اندماجه بالحزب العربي الاشتراكي عام 1953) التنظيم الأنجح خارج مصر.

بالأمس، احتفل البعثيون بالذكرى السنوية الـ59 لتأسيس حزبهم، لكن هذه الذكرى تأتي في فترة صعبة على كل من لا يزال يدغدغه الحلم القومي. فالحزب الذي نجح في تولي الحكم، شريكاً ومن ثم منفرداً، في كل من سورية والعراق على امتداد أكثر من ثلاثة عقود أخفق في تحقيق هدف الوحدة بين اثنين من أكثر أقطار العالم التصاقاً وتكاملاً.

لقد أخفق هذا الحزب، الذي تحمّس لوضع إريتريا والصومال على خرائطه «القومية»، في بناء كيان وحدوي يجمع قطرين جارين شقيقين خطوط الحدود بينهما مصطنعة أصلاً.

أكيد أن ثمة عوامل جوهرية وراء هذا الإخفاق المؤلم، يجوز في هذه العجالة سوق بعضها في ما يلي:

العامل الشخصي. فعبر السنوات شهد الحزب صراعات شخصية حادة منذ غادره جلال السيد أحد المؤسسين الثلاثة (مع ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار)، ثم وقوع التنافر بين مناصري أكرم الحوراني وخصومهم (بعد انهيار الوحدة مع مصر)، ثم تفجر الصراع بين «القيادة القومية» و«القيادة القطرية» في سورية ولجوء «القوميين» إلى العراق، ثم احتدام النزاع بين «قطريي» سورية بين «يسار» صلاح جديد و«يمين» حافظ الأسد... الذي انتهى بانتصار الأسد و«حركته التصحيحية». وفي العراق أيضاً أنجز «قوميو» البعث الحاكم هناك مسيرات تصفيات وإعدامات واغتيالات بشعة... انتهت كما هو معلوم بحكم الفرد والعشيرة.

العامل العشائري الفئوي. عطفاً على العامل الشخصي، أدت التغيرات التدريجية في مواقع السلطة ـ المواكبة طبعاً للتصفيات المتتالية على الأرض ـ إلى حصر الحكم بكتل أصغر فأصغر في القطرين... مما قلّص عاماً بعد عام القواسم المشتركة بين النخبتين الحاكمتين في القطرين وأدى إلى توسيع هوة التباعد والعداء بينهما.

العامل الحركي. لقد أفرز تجذّر العنصر «الحركي» في فكر البعث وممارساته، على مر السنين نهماً مفرطاً وسعياً دؤوباً للاستيلاء على الحكم بأقصر السبل وكل الوسائل المتاحة. وكان العسكر وبالذات أجهزة الاستخبارات والقمع من الأدوات الأضمن والأفعل لتأمين ذلك.

العامل التسلطي. أفرز احتكار السلطة لفترات طويلة بلا محاسبة حقيقية إلى نشوء ظاهرة «حكم الحزب الواحد» مع كل ما يصحبها من حالات الولاء الارتزاقي الانتفاعي والمحسوبية والوصولية والانتهازية... المألوفة تماماً في مثل هذا النمط من الأنظمة في كل أنحاء العالم. وفي نهاية الأمر، كما شاهدنا من تجربة العراق المأساوية سقط النظام أسير أوهامه وتنظيراته وجهله بالمتغيرات الدولية، وما عاد يوجد في هرم السلطة من يتمتع بالقدر اللازم من الوعي أو الجرأة للفت النظر أو الدعوة للإصغاء إلى التصور الآخر أو التنبه لنيات الخصوم.

اليوم المنطقة العربية، وبصفة خاصة المشرق العربي، على مفترق طرق خطير. فثمة احتلال وأجواء حرب أهلية وتقسيم في العراق، وأجواء حصار فعلي وتضييق بقرارات دولية ملزمة لسورية. وكأن هاتين الكارثتين لا تكفيان لتأكيد قتامة المشهد، نجد أن كثيرين ممن عاشوا في ظل الشكل القمعي التشويهي للعروبة... باتوا يأنفون منها كهوية ويرفضونها كمصير.

لقد استطاعت آفات التسلط والقمع والفساد وسوء التصرف والاستهتار بحقوق الإنسان أن تدمّر صدقية أشرف عامل توحيد للمنطقة العربية، ... فهل نتعلّم؟ وهل يتّعظون؟