حينما دعي ليكون أول رئيس لإسرائيل قال ألبرت اينشتاين: السياسة زائلة والرياضيات خالدة. هذا منطق عالم فذ يعرف قيمة نفسه ويعرف الآخرون قيمته، ففي حياته تخاطفته الجامعات وبعد موته تنازعت اربع دول تابعيته إليها. بالطبع لم يصل اينشتاين إلى ما وصل اليه بعبقريته الفذة وحدها. فكم من عبقريات دفنها المناخ العام الموجود في المجتمعات المتخلفة.

طوال عقود تحذر الدراسات من الآثار المدمرة لما اصطلح على تسميته بنزيف العقول، وطوال نفس العقود أمعنت السلطات العربية في تهميش العلماء وإذلالهم حتى أوشك العالم العربي على أن يخلو من كفاءاته العلمية والمهنية.

وكم من عالم تحسر بينه وبين نفسه أو في جلساته الخاصة على عمر أفناه في البحث العلمي وكان حصاده مرا، فبعضهم لا يستطيع تلبية الاحتياجات الأساسية لحياته، ويعرف المرء أكثر من نموذج في هذا السياق.

هناك قائمة أسباب لعينة تجعل العلماء في ذيل المجتمعات العربية وليس في صدارتها كما هو عليه الحال في الدول المتحضرة منها الفقر والبطالة وتدنى مستويات الأجور وانعدام فرص الحراك الاجتماعي والاضطهاد وعدم الاستقرار السياسي و ضعف الإنفاق على البحث العلمي وإلحاق العلماء بأعمال لا تتلاءم مع خبراتهم.

فالحكومات العربية إن أرادت تكريم عالم أولته مهمة إدارية لا يصلح لها ولا تصلح به، كما أن عالمنا العربي لا يعطي شبابه الباحثين حق قدرهم، رغم أن سن العبقرية حسب كتاب العبقرية والقيادة والإبداع لدين كيث سايمنتون هي بين العشرين والثلاثين.

وكانت حلقة فيرنر هايزنبرغ العلمية، التي وصلت إلى مبدأ «اللا يقين» في ميكانيكا الكم تعتبر أن من تخطى عمر الثلاثين هرم وشاخ ولم يعد ينفع.

حسب تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية في الوطن العربي لعام 2002 فإن أكثر من مليون خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا أو الفنيين المهرة هاجروا إلي الغرب، بينما تشير إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء في مصر إلى أن عدد العلماء الذين غادروها خلال عقدين فقط يصل إلى 24 ألف عالم وخبير في شتى الميادين.

عدد منهم يعملون في أهم التخصصات الحرجة والإستراتيجية مثل الجراحات الدقيقة، الطب النووي والعلاج بالإشعاع والهندسة الالكترونية والميكرو إلكترونية والهندسة النووية وعلوم الليزر، تكنولوجيا الأنسجة والفيزياء النووية وعلوم الفضاء والميكروبيولوجيا والهندسة الوراثية.

ووفقا لدراسة أعدها الدكتور عبد السلام نوير أستاذ مساعد العلوم السياسية بجامعة أسيوط فإن الخسائر الاجتماعية نتيجة هجرة العلماء العرب تقدر بـ 200 مليار دولار في عقد السبعينات وحده.

أحيانا يتساءل المرء بينه وبين نفسه : هل كل هذه المعلومات لا تصل إلى صناع القرار في العالم العربي؟ إذا كانت تصل فلماذا لا يتحرك أحد لإيجاد حل؟ إن هجرة العلماء هي أكبر عملية إخصاء يتعرض لها العالم العربي دون أن يدري.

والذنب ليس ذنب العالم الذي يهاجر بل ذنب مجتمعات لا تحترم العلم والعلماء ولا توفر البيئة المناسبة للبحث العلمي والإبداع. وبالتالي فإن طالب المعرفة حسبما يقول الدكتور فاروق الباز يبحث عن المكان الذي تتواجد فيه شعلة الحضارة.

ولكي لا يظن القارئ أن حديث إذلال العلماء مجرد كلام مرسل فإني أورد نموذج المنصف بن سالم، فالرجل علامة في الفيزياء والرياضيات له مكانة عالمية مرموقة ولأنه كتب مقالا ينتقد السلطة التونسية قبل نحو 19 عاما فقد سجن ثلاث سنوات.

بعدها تعرض للاستنزاف والتجويع وفرضت عليه الإقامة الجبرية وطورد أبناؤه وفصل أحدهم من دراسته فدخل هو وأسرته يوم 30 مارس الماضي إضرابا مفتوحا عن الطعام حتى تتوقف السلطة عن ممارساتها ضده وترد إليه حقوقه.

هذا مجرد نموذج يعكس واقع الحال.