لا زلت أذكر سؤال معلمي( لجميع المواد) في الصف الثالث الأبتدائي, حول أحلامنا الكبيرة. صحيح أننا جميعا كنا نحلم بالطب أوالهندسة أو الكلية العسكرية, لكنها تبقى أحلام صغيرة تتحرك تحت سقف الوحدة العربية.

بضع سنوات عرفنا حلما أكثر اتساعا وقربا من الواقع... حلم قزم أحلامنا وجعلها منقوصة ما لم تنته به... حلم يهبنا وسيلة التعريف الأقوى حتى من أجل الارتباط بإحداهن.
الهجرة...لا أريد من هذا التخصيص الذكوري التقليل من شأن نزعة المرأة التحررية، لكن الحقيقة أن الهجرة هي النهاية الطبيعية في أذهان غالبية الشباب السوريين الذكور.
الهجرة ليست ظاهرة جديدة كي نفرد لها تحقيقا صحفيا، لكن ماذا عن آولئك الشبان الذين هجسوا سنوات كثيرة بالسفر(الخلاص) ثم تبددت أحلامهم كما تبددت سنوات شبابهم.
لم تكن الهجرة بالنسبة لهؤلاء محمولة على إشكاليات العيش المستعصية, بل كانت رغبة ملحة تقارب في صورها نزعة الحنين الذي ألفناها في الأدب المهجري. كانت غاية احتوتهم وجعلتهم يتعاملون مع وجودهم في سورية كأقامة جبرية، يخفف من وطأتها حضور دائم للمكان( الوطن) الذي سيعودون إليه يوما.

من شاب تقطن روحه في ألمانيا بينما جسده يذبل في أروقة جامعة دمشق حيث يكمل دراسته الجامعية، إلى آخر أتقن ممارسة المواطنة في ظل قوانين المملكة المتحدة... من شاب قايض على السفر بمنزله الذي يقطن فيه، إلى ضحية تترفع عن الحياة هنا لأنها ترى في السويد فردوسها المفقود.
لم تعد صعوبة العيش أو الرغبة في التحصيل العلمي أسبابا مباشرة للهجرة, فلو كان الأمر كذلك لما اضطررنا لإقامة وزارة للمغتربين. ثمة شيء ما همش تلك الأسباب وجعلها بحاجة لقراءة جديدة في ظل تراكمها وامتدادها الزمني. شيء ما يجعل الهجرة خيارا يتيما لا يستطيع رفضه حتى الذين يسكنون حاويات القمامة في دول الإغتراب. شيء يقارب بين طقس الموت والهجرة، دموع الأمهات وغصات الآباء وتسليم الأبناء.

الحرية. صحيح أن مظاهر الحرية التي يعج بها الكوكب لم يعرفها الشباب السوري واقعا. لكن الحقيقة أنها احتلت ذاكرتهم من خلال قصص المسافرين ورصاصات الإعلام الخارجي.
إذا بحثنا في نمط الحياة الذي يسعى له الشباب في دول الإغتراب لوجدناه مختصر بمفردتين هما الأمان والجدوى. أما باقي مفردات الحرية التي تشير إلى المواطنة و(الإنفلات الجنسي) كما يسميه البعض فهي مظاهر ثانوية لسببين بسيطين: الأول أن المواطنة بشكلها الطبيعي لا يستطيع الأجنبي ممارستها حتى في أرقى دول العالم. والثاني أن ما يحدث في سورية تحت سقف المحافظة والانضباط الخلقي أكبر من أي سلوك علني في أي بقعة من العالم.

لا نقصد بالأمان انخفاض احتمال وقوع الجريمة في المكان. كما أننا لا نقصد بالجدوى؛ تلك الرغبة في الحياة الدنيا التي يحاربها رجال الدين. نحن نشير- طبعا مع تحفظاتنا على هذه القناعات- إلى حالة مزمنة من الخوف ترافق كل تفصيل في حياتنا. من الهمس إلى الأحلام ( النوم واليقظة)، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمستقبل. هذا الخوف أفرزحالة اللاجدوى أو عبثية العيش في هذا المكان, فسواء كنت متدينا او يساريا, غني أو فقيرا، عالم أو عامل...الخ. المكان المناسب لحياتك خارج حدود سورية.

أخيرا بين الآباء والابناء مسافة زمنية يقف على طرفيها جيلين متناقضين. الأول ضحى بنفسه من أجل سورية، والثاني يضحي بالكثير في سبيل الرحيل منها. فإذا كان الانتماء لها هو ما يمتلكه ويعتز به الآباء، وبالمقابل يفتقده ويبحث عنه الأبناء. هنالابد لنا من السؤال :
هل ستصبح الهجرة حلم يتركه المهاجر الفاشل في عهدة ابناءه وأحفاده،أم ستقترب صورة الوطن الكائن في أخيلة الشباب من هذا المكان..؟؟