في نيسان 2004 وخلال مشاركته في ورشة تدريبية للصحافيين السوريين نظمتها مؤسسة "بي.بي.سي" البريطانية في دمشق، اقترح الاستاذ جهاد الزين عليّ، وكان أحد المدعوين، أن أجري تحقيقا صحافيا حول أحزمة الفقر، أو أحياء المخالفات، حول دمشق. وفي 29 /4/2004 نُشِر التحقيق في "قضايا النهار" تحت عنوان "أحزمة البؤس وربما العنف حول دمشق وفيها". اليوم مضى عامان، لننظر ماذا حصل منذ ذلك الوقت:

في الأول من حزيران الماضي جرت مواجهات مسلحة في حي "دف الشوك" جنوب دمشق بين قوات أمنية سورية وجماعة من الإسلاميين "التكفيريين" أسفرت عن مقتل اثنين من المتطرفين، أحدهما زعيم الجماعة "أبو عمر" إضافة الى عنصر من الأمن.

وفي آذار الماضي هدمت محافظة دمشق بناءً مؤلفاً من ست طبقات في الحي نفسه، وهو من أحياء المخالفات او السكن العشوائي حول دمشق، بسبب تصدعه المفاجئ وخوفا من حصول كارثة انسانية، وبعد نحو عشرة أيام فقط، انهار بناء آخر لا يبعد سوى 300 متر عن البناء السابق مؤلف من خمس طبقات خلال عملية ترميمه بعد ملاحظة تصدعات في دعاماته الأرضية.

في الرابع من نيسان الماضي حصلت مواجهات بين سكان منطقة مخالفات أو سكن عشوائي في حي معربا شمال دمشق وبين قوات من حفظ النظام بسبب إصرار سلطة البلدية المحلية على هدم بناء مخالف، واسفرت تلك المواجهات التي استخدمت فيها القنابل المسيلة للدموع عن إصابة 17 شخصاً بحالات ضيق تنفس كما أصيبت ثلاث نساء طاعنات في السن خلال المواجهات وقد كسرت يد إحداهن!

في ذلك اليوم احرق الأهالي إطارات السيارات وسدوا الطريق الرئيسي. السلطات جلبت 7 حافلات من قوات حفظ النظام و6 سيارات من شرطة النجدة بقيادة مجموعة من الضباط.

المواطن محمد عودة من أهالي البلدة قال "الهدم لا يطاول إلا منازل الذين لا يدفعون (رشى) ومنهم صاحب المنزل المسكين أحمد حسن باكير".

وأيضا في صيف العام الماضي وقع شجار بين أفراد من الشرطة وسكان في حي "المزة 86 " غرب دمشق، وهو من أحياء المخالفات، على خلفية وجود حاجز للشرطة تم وضعه في مدخل الحي لقمع المخالفات في البناء ووقفها. وكان الحي نفسه شهد قبل عامين اعتقال نحو 70 عاملا وثلاثة من متعهدي البناء وستة مهندسين سجنوا عرفيا ثلاثة أشهر في سجن عدرا.

بكل تأكيد لن تنتهي القصة في أحياء "دف الشوك" أو "المزة 86"أو "معربا"، فحسب دراسة لمحافظة دمشق هناك تجمعات أو أحياء حول العاصمة عددها 43 حيا، وتضم 36 % من سكان المدينة. وكلها تجمعها سمات وخصائص مشابهة، سواء من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية أو التعليمية وحتى السوسيولوجية. فالغالبية أتوا من محافظات ومناطق بعيدة، بحثا عن وظيفة أو فرصة عمل، أو مستوى معيشي ودخل أفضل. وغالبية منهم أصيبوا بخيبة أمل.

جميع سكان هذه الأحياء بنوا بيوتهم على عجل، في ظرف ايام قليلة، لأن القوانين تمنع البناء خارج المخطط التنظيمي للمدينة، وآخرها القانون 1 عام 2003. وبسبب ذلك يبني هؤلاء بيوتهم بسرعة وفي صراع مع الوقت كما لو أنهم لا يحق لهم امتلاك مجرد منزل، رغم أن غالبيتهم دفعوا رشى لتلك البلديات وموظفيها ليسمح لهم بالبناء لكن شرط ألا يستغرق ذلك وقتا طويلا. وعند الانتهاء يصبح البيت أمرا واقعا وتكون الصفقة قد تمت.

كذلك فإن نسبة كبيرة من سكان هذه الأحياء سكنت البيوت المتواضعة قبل وصول شبكات الماء والكهرباء والهاتف والصرف الصحي وقبل تشييد المدرسة.

في حي "تشرين" مثلا، الى اليوم، ورغم مرور نحو عقدين على بدايات تشييده، ليست هناك أي مدرسة، رغم أن عشرات الآلاف يقطنونه.

في هذا الحي تكثر فئات من الشبان المتسكعين العاطلين عن العمل. وهنا اتخذ آلاف من "النّور" هذا الحي مكانا لهم للسكن، وغالبية من نسائهم تقدم "الفن" الرخيص والمبتذل للزبائن سواء في البيوت أم في مراقص وملاه ليلية قريبة.

قبل نحو عامين، نشرنا في "قضايا النهار" (29/4/2004) تقريرا عن أحياء المخالفات وسميناها "أحزمة البؤس وربما العنف حول دمشق وفيها" هذا التقرير لم يلفت أنظار مسؤولين سوريين بل لفت أنظار باحثين "كنديين وفرنسيين ومصريين" حسب ما أخبرونا خلال زيارات لهم الى دمشق ولقائنا بهم، منهم الباحث المصري محمود عبد الفضيل الذي شارك في حزيران الفائت في نقاش بمناسبة صدور أول تقرير عن الفقر في سوريا أعدته مجموعة من الباحثين السوريين والعرب تحت إشراف هيئة تخطيط الدولة وبرنامج الامم المتحدة الانمائي. في ذلك النقاش أشاد عبد الفضيل أمام مجموعة من المسؤولين السوريين بالتقرير المنشور في "قضايا النهار".

وفي ذلك النقاش قال هذا الباحث المصري إن أحياء المخالفات حول دمشق تحتضن نحو 2 مليون نسمة، منبها الى أن واقع الحرمان فيها يؤدي الى إحباط معنوي، فالفقر ليس مادياً دائما بل هو فقر الكرامة ايضا، مما يعني ضرورة قيام السلطات المختصة "بجراحات عاجلة" في هذه المناطق، بالطبع دون نسيان البعد الاجتماعي النفسي للفقراء من ساكني هذه الأحياء، حين يجتمع الفقر مع البيئة المدنية التي غالبا ما تفرز ظروفا مباغتة وانفجارات غير متوقعة.

في هذه الأحياء يجتمع فقر الدخل مع فقر القدرات، فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للغالبية من هؤلاء السكان المهاجرين أو النازحين والأفراد المهمشين تتسم بالهشاشة.

هنا يجتمع موظفو الدولة من ذوي الدخل المحدود، وعمال البناء، وسائقي الأجرة، وبقية المهن التي أوجدتها ضرورات الاجتماع، مثل البقالات الصغيرة، ومصابغ الغسيل والكوي للشباب البعيدين عن أهاليهم مثل الطلبة والجنود وعناصر الشرطة، الى صالونات الحلاقة، والعيادات الصغيرة وغير المجهزة للأطباء الشبان ضمن المنازل وبين الأزقة الضيقة، وتوجد الصيدليات أيضا، كذلك تشير لوحات صغيرة كتبت على عجل وبخط رديء على مداخل المنازل الى نساء يمارسن مهنة التوليد (القابلات القانونيات) ولوحات أخرى تشير الى وجود "المطهّرين القانونيين".

وهنا يوجد الكثير من الشبان العاطلين عن العمل الذين يملأون الشوارع جيئة وذهابا بحثا عن لا شيء سوى تمرير الوقت.

في مثل هذه الأحياء يمكن رؤية كل المتناقضات، ويمكن رؤية سوريين من كل المحافظات ومن كل الطوائف والمذاهب، ويمكن سماع لهجات متعددة لكن الفقر هو الجامع.

وليس الفقر فقط، ثمة ثقافة خاصة تجمع سكان هذه الأحياء، يمكن اختزالها بتنامي الإحساس بالغبن والموقف السلبي من مؤسسات "الدولة" الخدمية كالمحافظة والبلديات، التي تبدو لهم دائما حاضرة لجباية الفواتير وتسديد الضرائب دون تقديم الخدمات الضرورية، كما هي مشاعر بائعي سوق الخضار في حي "القابون" الذين يسددون ما عليهم من ضرائب سنوية لمحافظة دمشق بينما سوقهم لا تحوي حتى على مجرد مرحاض لقضاء الحاجة رغم مرور أكثر من 15 عاما على تواجدهم به حسب ما اخبرتنا مجموعة منهم.

كذلك تميل شرائح واسعة من هؤلاء الى الالتزام بالذهاب الى المسجد، بشكل يومي، وغالبية من الشبان تطلق لحاها وتتخذ من أحد أئمة المساجد معلما وناصحا لهم مهما كان مستواه العلمي ومهما كانت رؤاه متطرفة أو سلفية . يمكن ملاحظة ذلك من ظاهرة تقبيل هؤلاء الشبان أيادي "شيوخهم" عند ذهابهم الى المساجد لحضور دروس معينة، أو حتى حينما يلقونه في الشارع.

في هذه الأحياء لا توجد شوارع عريضة، بل مجرد أزقة، تسمح بدخول سيارة في اتجاه واحد، أزقة تنبعث منها روائح الرطوبة والمراحيض وثمة أطفال كثر يلعبون فيها بالكرة وبالحجارة وبكل ما تقع عليه أيديهم.

أطفال تقول وجوههم أنها لم ترَ الشمس منذ وقت طويل. أطفال بلا حدائق، ولا مساحات خضراء، فقط الأسمنت الشاحب من حولهم حيث البيوت الكبريتية المتلاصقة... عندما تمر من هنا للحظة تخال أن هذه الوجوه أمست جزءا من المكان بلونه ورائحته.