ضيا اسكندر (قاسيون)

كرأس الجاموس تماماً رأسه!
شارباه, لو وقف عليهما نسْران لما انحنيا..
جسده بضخامة مصارع ياباني عملاق..
حشرجة أنفاسه تهدر من منخريه كعواصف الرياح العاتية.
صوته أشبه بهزيم الرعد في ليالي الشتاء القاسية.
لديه شبق التيوس؛ يومياً يضاجع زوجته وما ملكت يمينه من النساء... عدة مرات!
نادراً ما رآه المعتقلون يبتسم..
يقال والعهدة على الراوي, أنه يأكل يومياً ثلاثة ديوك بلدية مشوية مع عظامها. ويشرب ثلاث بطحات كبيرة من العرق البلدي المثلث.. وأن إدارة السجن تقوم بتغيير قاعدة المرحاض الذي يستخدمه, عدة مرات في السنة, بسبب بوله الحارق والذي يشبه في آثاره الأسيد!

الجميع يسمّونه (عزرائيل) مع أنه نادراً ما يكلف بمهمة داخل السجن. حيث تقتصر نشاطاته على التعامل مع المعتقلين من ذوي الرؤوس اليابسة؛ فيكون المعتقل أمامه بمواجهة خيارين, إما الموت الزؤام, أو الخضوع التام والاستسلام كلياً لمشيئته.
قال لي المحقق بعد أن أعْيته الحيلة في استنطاقي: يبدو أننا سنطلب معونة عزرائيل أيها القزم, وسوف تندم على الساعة التي ولدت فيها..

ما إن أدخلوني إليه, حتى انسفحت قشعريرة في ظهري وهبط قلبي إلى أمعائي... فقد ظننت أنني بحضرة شمشون الجبار! والحقيقة أن الوصف شيء والواقع شيء آخر تماماً. كل ما سمعته عنه من رفاقي المعتقلين لا يقترب قيد أنملة من وهج طغيانه الرهيب!
كان جالساً على مقعدٍ خشبي, يلبس جلباباً فضفاضاً مشمّراً عن ساقيه المكسوتين بالشعر الكثيف. وقد غمس قدميه في وعاء فيه ماء ساخن, يقوم بتدليكهما أحد المساجين.

للوهلة الأولى تطلّع صوبي بحيادية أدخلت الطمأنينة إلى قلبي الواجف!
تُرى, هل الماء الدافئ والتدليك الناعم أدخلا اللذة والوداعة إلى كيانه؟

  من هذا الصعلوك؟ (سأل بازدراء وغطرسة)

  معتقل جديد سيدي.. (أجاب مرافقي)

  لماذا جلبتموه إليّ هذا (النص دكّة) إنه لا يتحمّل نفخة...

  سيدي! إنه عنيد جداً ومتكتم...

وكأن كلباً مسعوراً عضّه لدى سماعه العبارة الأخيرة, فانتفض واقفاً راكلاً السجين الذي يقوم بخدمته وأسقطه أرضاً. واندفع صوبي كالثور الهائج وهو يجأر بكلمات لم أفهم منها حرفاً واحداً, ووجّه صفعةً قوية على وجهي انطلقت على إثرها عيني الزجاجية من محجرها كالسهم, وارتطمت بالحائط وتناثرت على الأرض شظايا صغيرة...

ويا لهول ما حصل!
شهق مدهوشاً وقد فغر فمه وتشنّج وجهه وجحظت عيناه من وقع المفاجأة وصرخ مذعوراً: (وععععع...!) وكاد يسقط مغشياً عليه!!!

يا إلهي! إنه إنسان عادي! يخاف ويصرخ وربما يبكي كطفل... هذا العزرائيل الشمشوني تعرّى تماماً أمامي وأظهر الجانب الإنساني الخفي من شخصيته!!!

شعرْتُ بالحنو تجاهه, أشفقتُ عليه, خاطبته مواسياً مهوناً عليه الأمر:

 والله العظيم سيدي لم يكن قصدي...! أنا آسف أشدّ الأسف, الحقيقة أنني فكّرتُ بنزع عيني الزجاجية قبل مقابلتك, لكنني ترددت, وخمّنت أنني قد أثير اشمئزازك فتقرف من منظري القميء هذا... ولم أشأ..

 (مقاطعاً بعد أن استعاد رباطة جأشه وهمد) اغرب عن وجهي أيها الأعور النحس! "يلعن أبوك لأبو اللي جابك لهون عرص... - موجهاًً كلامه لمرافقي - خذه الآن, بعد الغدا منتحاسب.. "

لدى عودتي إلى الزنزانة, كنت مترعاُ بالسعادة. شعرتُ بنشوة من حُكِمَ عليه بالإعدام وقد انقطع به حبل المشنقة لحظة التنفيذ, فأعفاه الحاكم من العقوبة وأخلى سبيله... رفعتُ قبضتيّ إلى الأعلى وهمستُ فرِحاً: ياي.. عيني الله!

غير معقول! لقد عدتُ سليماً معافى بعد أن زرعتُ الهلع ولو للحظات, في قلب أشرس سجان...
شكراً لتلك الدجاجة التي نقرت عيني وفقأتها بينما كنت أقترب من صيصانها في الخمّ أثناء طفولتي الشقية.

شكراً لذاك التقني الماهر الذي صنع لي العين الزجاجية..
آهٍ لو أن لي رِجْلاً اصطناعية أو يداً أو رأساً أو حتى (....) اصطناعياً...!

لكنت فعلتُ العجائب بعزرائيل الدراكولا هذا...

تنويه : نُشرتْ هذه المادة في جريدة قاسيون العدد (270) تاريخ ـا 14/4/2006