تعاني أوروبا من داء خطير, تتبدى أعراضه المتعددة, في ضعف وهشاشة الحكومات, والوهن الاقتصادي, وشلل المؤسسات, مقترناً بالعجز السياسي. والسؤال الأشد إلحاحاً هو ما إذا كان هذا المرض حالة عارضة مؤقتة, أم أنه داء مزمن عُضال؟ وبالطبع يتمنى الجميع أن تزول هذه الأعراض قريباً, وألا تتعدى كونها عارضة ومؤقتة. ذلك أن بروز الاتحاد الأوروبي خلال نصف القرن الماضي, يعد من أكبر وأبرز الإنجازات السياسية التي حققها العالم. ولا تنحصر أبعاد ذلك الإنجاز في تمكن كبريات الدول الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة, من تجاوز خلافاتها طويلة الأمد, الممتدة عبر قرون طويلة فحسب -بما في ذلك قدرتها على توحيد خصائصها السيادية إلى حد ما-, وإنما يتخطى ذلك إلى قدرة الاتحاد الأوروبي, على اجتذاب بعض الدول "الفاشية" السابقة, مثل أسبانيا والبرتغال, إضافة إلى ضمه لبعض دول المنظومة الاشتراكية الآفلة, مثل بولندا والمجر وجمهورية التشيك, واستقطابها معاً إلى عضوية ناديه الديمقراطي. كما أسهمت عضوية الاتحاد الأوروبي إسهاماً مذهلاً في دفع حيوية وازدهار بعض دوله التي كانت غارقة في وهدة الفقر, كما هو حال أيرلندا مثلاً.

وهكذا يمكن القول إجمالاً, إن هذا الاتحاد المؤلف من عضوية قوامها 25 دولة, قابلة للاتساع إلى نحو 27 دولة, لحظة انضمام دولتين أخريين إليه هما رومانيا وبلغاريا, بل وإلى عضوية 28 دولة على أمل انضمام تركيا إليه في المستقبل القريب, يمكن القول إنه كان قصة نجاح باهر دون ريب.

ويعيش نحو 450 مليون نسمة من المنضوين تحت راية الاتحاد, في جزيرة آمنة, يسودها السلام والازدهار النسبيان, بالمقارنة إلى الجزء الأكبر من بقية أنحاء العالم. بيد أن القلاقل بدأت تدب في جسد الاتحاد حالياً, وربما يعود بعضها إلى السرعة التي اتسعت بها عضويته. وها هي الآن عجلات القطار الأوروبي وقد تعثرت في السير بهمة إلى الأمام. وها هي غلالة الوهم تنقشع عن الاتحاد, وتلك هي آمال أقسام كبيرة من الأوروبيين تخيب, وتتهشم في عيونهم وجوانحهم صورة الاتحاد وجدواه. وليس أدل على ذلك من رفض الأغلبية الهولندية والفرنسية لمشروع مسودة الدستور الأوروبي المقترح. ليس ذلك فحسب, بل إن دولاً رئيسية في عضوية الاتحاد, أضحت مستغرقة اليوم في مشكلاتها الداخلية, إلى حد لم تعد تجد فيه من الوقت ولا الطاقة, ما يمكنها من التصدي للمشكلات الملحة التي يواجهها الاتحاد الآن.

ففي إيطاليا على سبيل المثال, ما أشق المهمة التي يواجهها تحالف يسار الوسط بقيادة رئيس الوزراء الجديد "رومانو برودي", فيما يتصل بمهمة الحفاظ على استقرار الحكومة الجديدة, التي فاز رئيس وزرائها بهامش انتخابي ضئيل للغاية, على منافسه اليميني الشعبوي "سيلفيو بيرلسكوني". أما في فرنسا, فقد منيت مساعي رئيس وزرائها "دومنيك دو فليبان", الرامية إلى إجراء إصلاحات وتعديلات على قوانين العمل الجامدة السارية حالياً, بهزيمة ماحقة من قبل المتظاهرين الفرنسيين, الذين كان معظمهم من الشباب الجزعين القلقين على مستقبلهم. ثم ما أصعب المهمة التي تواجهها المستشارة الألمانية الجديدة أنجيلا ميركل, على الصعيدين الداخلي والخارجي معاً! فداخلياً عليها الحفاظ على توازن ائتلافها الكبير, المؤلف من الحزبين الديمقراطي- المسيحي, والاشتراكي- الديمقراطي. أما خارجياً, فإن عليها اتباع سياسات حفظ التوازن ما بين علاقاتها بواشنطن وموسكو في آن واحد! وبذلك نصل إلى بريطانيا التي أخذ الوهن والهزال كل مأخذ برئيس وزرائها توني بلير, جراء قراره الانضمام إلى حرب بوش على العراق, وهو القرار الذي كان بمثابة صفعة كبيرة لسياسات الدفاع الأوروبية المشتركة.

وتبدي الحكومات الأوروبية كلها, قلقاً عظيماً إزاء كيفية صد تدفق موجات الهجرة غير الشرعية إلى بلدانها من دول العالم الثالث, وكيف لها أن تدمج نحو 20 مليوناً من مهاجريها المسلمين, الذين طالما شعروا في حالات كثيرة, بغربتهم الثقافية وبالعزوف الاقتصادي عنهم في أوطانهم الأوروبية البديلة. وبسبب هذه المشاغل والهموم الداخلية التي تستنزف حكوماته, فقد عجز الاتحاد عن بسط نفوذه وإبراز دوره في ساحة المسرح الدولي. فليس ثمة صوت أوروبي موحد في مواجهة الأحداث والتطورات الدولية. وكل ما هناك, عدد من الأصوات الأوروبية المتنافرة, بل المعبِّرة عن أهداف متصارعة فيما بينها, في كثير من الأحيان. وبالنتيجة, فقد غابت المساهمة الأوروبية الموحدة المشتركة, في جعل عالمنا الراهن أفضل وأكثر أمناً وسلاماً.

ومن أسف أن جاء هذا السقم الأوروبي في لحظة جد دقيقة وعصيبة. فعالمنا تتقاذفه النزاعات من كل حدب وصوب, وما أكثرها بصفة خاصة في منطقة الشرق الأوسط, التي تعد فِناءً خلفياً للبيت الأوروبي. ولن نضيف جديداً بترديدنا لحقيقة ذلك الحبل السري الذي يربط بين كل من أوروبا والشرق الأوسط, سواء تاريخياً أم جغرافياً أم ديوغرافياً. فهما كالجسد الواحد, إن شكا فيه جزء تأثرت بقية الأجزاء بذلك, سواء أكانت هذه الشكوى فقراً, أم عنفاً وإرهاباً, أم استبدادَ حكمٍ أتوقراطياً, أم كراهية دينية عرقية!

وليس من بقعة في الكرة الأرضية اليوم, يزداد فيها الطلب والإلحاح على أوروبا بأن تؤدي دورها في التسوية السلمية للنزاعات, وإبراز ما هو جوهري ورئيسي في قيمها الديمقراطية, واحترام حقوق الإنسان وحكم القانون, أكثر مما هو مطلوب اليوم في منطقة الشرق الأوسط. غير أننا رأينا بأنفسنا, كم هي بعيدة أوروبا عن لعب أي دور كهذا في الوقت الحالي.

ومما يزيد الطين بلة, أن الولايات المتحدة الأميركية –القوة المفرطة الوحيدة في عالمنا الراهن- هي من يسهم في إشاعة العنف والفوضى, بسبب سلوكها السياسي, وجراء هوسها بما تسميه "الإرهاب الإسلاموي", ونتيجة لدعمها وانحيازها الأعمى لإسرائيل, ثم لازدرائها البادي للمعاهدات والمؤسسات الدولية.

ويتجلى هذا الضعف الأوروبي بصفة خاصة, في أربعة مجالات رئيسية, أولها الفشل الذريع في وضع حد للحرب الدائرة في العراق, لاسيما وأنها تنفث سمومها القاتلة على امتداد المنطقة كلها. ثانياً الفشل في نزع فتيل أزمة المواجهة الحالية مع إيران, بسبب برامجها النووية. ثالثاً وفوق ذلك, الفشل الأوروبي في الإسهام بفاعلية في إيجاد تسوية سلمية للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني, الذي يشكل دون شك, التربة الأكثر خصوبة لنمو الإرهاب. ونصل أخيراً إلى الفشل الأوروبي في بناء علاقة صداقة راسخة مع العالم الإسلامي. ومن أمثلة هذا الفشل المخزي, انضمام الاتحاد الأوروبي إلى حملة مقاطعة حكومة "حماس", التي انتخبها الفلسطينيون ديمقراطياً.

ومما لا ريب فيه أن الشرق الأوسط يمر بلحظة خطيرة وحاسمة. وفيما لو تقاعست أوروبا عن دورها فيه, فإن عليها الاستعداد لتحمل العواقب الوخيمة التي ستقع عليها لا محالة.