عبد اللطيف مهنا

درسان تلقاهما العرب في الأونة الأخيرة. كانا من الوضوح بحيث طرحا عليهم تحدياً ملحاً يهيب بهم منادياً ما إذا كان هناك من بينهم من يهمه أمر الإفادة مما يحملانه من عبر... قد لا يكونا يتيمين أو طارئين، بالنظر إلى ما سبقهما من دروس مريرة عادة، تلك التي لطالما تلقوها ولم يحسنوا غالباً الإفادة منها. لكنهما، على أية حال، يظلان الأجدَّ، فالأكثر سخونةً، وسيغدوان من الآن فصاعداً، وبلا أدنى شك، شغل المنطقة الشاغل، بل العالم، ولفترة قادمة، ربما لن تكون بالقصيرة... الدرسان جاءا العرب من طرفين أو جهتين مختلفتين، أو من موقعين نقيضين، حتى للحظة على الأقل... واحدهما تلقوه من الغرب... الغرب الأمريكي الأوروبي، والآخر من الشرق... من الجارة المسلمة إيران...

الأول، هو موقف الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، يضاف إليهما موقف "الرباعية" التي تضم إلى جانبهما كلٍ من روسيا والأمم المتحدة، من نتائج الانتخابات الفلسطينية تحت الاحتلال... تلك الانتخابات التي جرت، كما هو معروف، بدفع ورعاية ورقابة، بل إشراف، ومن كل هذه الجهات جميعاً... أو الموقف من فوز حماس في هذه الانتخابات، التي سبق وأن شهد هؤلاء جميعاً بنزاهتها وشفافيتها، وتشكيلها من ثم، أي حماس، لحكومة السلطة الراهنة.

...كان هذا الموقف، وبكل بساطة، انقلاباً... أو هكذا ظن من لا يعرف حقيقة الغرب، أو من لا يفهم كنه المعادلات الكونية القائمة في ظل هيمنته... انقلاباً على كل دعاوى حرصه الزائف على الديمقراطية، أو كان نكوثاً منه عن ما تبشّر به شعاراته الخادعة، التي لا ينفك يرفعها حول ضرورة نشرها... لدرجة تجشمه، وهو في هذه الحالة الولايات المتحدة الأمريكية، عناء وكلفة شن حروبه الاستباقية عبر العالم لبسطها!!!

اليوم يتنادى الغرب، بأطرافه المشار إليه، وبتنسيق بينها، ودونما أدنى شك بينها وبين إسرائيل، لمحاصرة حكومة هذه السلطة الوليدة، بغية واحدٍ من أمرين شبه معلنين، ولا ثالث لهما:

إما إجهاض فإسقاط، أو إخضاع فاحتواء، وبالتالي قبولها، أي السلطة، بما سيعرض عليها من شروط حاسمة وحازمة وواضحة لقاء السماح لها بالبقاء، وذلك تحت شعار ضرورة استجابتها لما يدعى "متطلبات المجتمع الدولي"، أي متطلبات هذا الغرب، وبلغة أخرى، المتطلبات الإسرائيلية، والتي يمكن اختصارها في الآتي:

وجوب اعتراف الفلسطينيين عبر هذه السلطة بعدوهم المغتصب لوطنهم التاريخي، المحتل لأرضهم، المشرد لشعبهم، المحيل حياتهم اليومية إلى محرقةٍ مستمرة، وبالتالي تحريم وتجريم مقاومتهم المشروعة بأنفسهم، بل القبول بتوصيفه لها إرهاباً. وأيضاً قبولهم بما فرضه عليهم من إملاءات أو تنازلات تسمى اتفاقيات، وما يفرضه راهناً، أو سيفرضه مستقبلاً، من وقائع تهويدية زاحفة على أرضهم، عبر توسيع المستعمرات وتمدد ما تسمى الأسوار العازلة، وكذا استجابتهم لمقتضيات التحكم في مصائرهم عن بعد، أو عبر ما تدعى المعابر، في متناثر تجمعاتهم السكانية المحاصرة، أو تلك الكتل البشرية المحشورة فيما تبقى من كانتونات متباعدة، أو معتقلات كبرى، بانتظار أن يحين آوان تنفيذ الحلم الصهيوني الأخير... أو آخر استهدافات الاستراتيجية الصهيونية المبتغى تحقيقها المعروفة بالترانسفير...

لذا تم قطع المساعدات البخسة وذات الأرقام الخادعة والتي لا تصلهم جميعها، وذلك بهدف التجويع والإذلال، وتم ذلك بالتوازي مع إغلاق المعابر بهدف مزيد من التضييق والقهر، وإدارة المذابح اليومية بهدف الوصول إلى مرحلةٍ أعلى من الترويع... أوقفت المفوضية الأوروبية، وتلتها الدانمارك وكندا، مساعداتها للسلطة. أما الولايات المتحدة، فبالإضافة إلى مثل ذلك، فقد رصدت مبلغ 42 مليون دولار لدعم نوع من ديمقراطية تبعية فلسطينية منشودة لم تتحقق بعد، ولمحاولات انتاج بدائل متوخاة لحماس... الأوروبيون كانوا أكثر نفاقاً، أول من قالوا أنهم سوف يبقون على مساعدات توصف بالإنسانية، كانت أحياناً تعرّف بأنها مساعدات إسرائيلية فلسطينية، ولاحقاً مساعدات غير مباشرة، وفق التوصيف الأمريكي، وإنها سوف تقدم فحسب للمؤسسات المدنية!!!

لقد كان الهدف واضحاً، إسرائيل تحتل وتهوّد وتذبح من يقاوم أو يعترض أو يصمد في مواجهة سياسة الإبادة الوطنية لشعبٍ مطلوب تغييبه، والغرب، أي ربيبها أو صانعها وراعيها، يقطع المعونات، ليجوّع من يقطعها عنه، لابتزازه وإخضاعه لما يريده الإسرائيليون من وراء انتهاج سياساتهم تلك... أي أنهم لم يكونوا ليلقوا بدريهماتهم هذه للفلسطينيين جزافاً، أو لفعل الخير، وإنما لكي يتنازلون عن حقوقهم... وعليه، وفي النتيجة، ما كانت مساعداتهم إلا لإسرائيلهم وحدها... وهي من حيث القيمة بخسة،ولو توفرت النية العربية الرسمية المشكوك في توفرها، أو حتى الشعبية وحدها، رغم أنها أما غير مؤطرة أو غير مسموح بها، أو في الحالتين، الرسمية والشعبية، عادت الإرادة السياسية الغائبة منذ أمد، ودبت الروح في الالتزام القومي الذي كان تجاه قضية قضايا الأمة في فلسطين، لأمكن تعويضها، أو تأمين ضعفها، خصوصاً في هذه المرحلة التي تشهد بركات الفورة النفطية الراهنة.

...لقد قالها وولتشن مساعد وزيرة الخارجية المعني بالمسألة عبر إحدى القنوات العربية:

"ليس مطلوباً منا أن ندفع فاتورة فوز حماس"!

وأكثر، هناك مشروع قانون يجري أعداده لكي يقره الكونغرس الأمريكي يسمى "قانون محاربة الإرهاب الفلسطيني"... من بين اشتراطاته، أن على السلطة بعد أن غدت برأسين يعتمدان طربوشاً مهترئاً واحداً، "الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية"!!!

الدرس الثاني... يتمثل في الإنجاز النووي الإيراني، وردود الأفعال الغربية عليه... قبل أيام قليلة من الإعلان الرئاسي عن امتلاك طهران القدرة على تخصيب اليورانيوم دورةً كاملة، أو وفق التوصيف المحبب قوله بالنسبة لهم: التحاقهم بعضوية النادي النووي الدولي، وضع الرئيس بوش أصبعة على جبهته مؤكداً أن هدفه هو منع إيران من امتلاك المعرفة النووية... لكن إيران لم تلبث أن قالت له، وبعد أيام قليلة: لقد امتلكناها!

وحيث قال الرئيس بوش، أيضاً يومها، للإيرانيين محذراً إياهم: أن لديه خطان أحمران هما: قيامهم بالتخصيب أو الاقتراب من المعرفة الممنوعة عليهم، رد عليه الرئيس الإيراني متحدياً، وبعد الإعلان عن القدرة على التخصيب: إن إيران اجتازتهما!

مالذي كان من الغرب؟

لم تقرع طبول الحرب... بدأ الحديث أكثر تعقلاً عنه إبان ما قبل الإعلان الإيراني، أصبح أكثر تركيزاً على دور مجلس الأمن، والتلويح بالبند السابع إياه، بل أنه حتى إسرائيل قد ابتلعت على غير عادة لسان تهديداتها التليدة، وغدت تتحدث عن الديبلوماسية... قامت قيامة الغرب، لكنها كانت الأقرب إلى قيامة ديبلوماسية تحكمها مواقف تختلف باختلاف معدلات العداء لإيران لدى أطرافه، وتباين المصالح لديها، مع بقاء ما يجمعها وهو الحرص على إسرايئل... لكن هذه القيامة تحول بينها وبين ما تريد استلاله ضد إيران، أي البند السابع ذاك، عدم حماسة الدب الروسي ومصالحه وبراغماتية أو حسابات التنين الأصفر... والأهم الخوف، إذا ما ذهبت هذه القيامة أكثر باتجاه عسكري، من احتمالات توقف تدفق النفط من مضيق هرمز، أي ويلات ركود عالمي جراء هذا التوقف قد لا يبقي ولا يذر...

إيران، ورداً على ردود الأفعال الغربية على ما أعلنت، استعادت أيام مصدّق، مستنفرةً عزتها القومية، تلك التي لا تعوزها اليقظة عادة وقال رئيسها المتحدي الغرب منذ أن جاء إلى السلطة، محمد أحمدي نجاد قولاً من عيار:

"ردنا على المغتاظين من حصول إيران على القدرة النووية الكاملة، في جملة واحدة: اغتاظوا ما شئتم وموتوا بغيظكم"!

في الدرس الأول، وحيث لا سياسات خيرية، هناك ما يقول للعرب، وما الفرق بين عدو محتل وأولئك الأعداء الذين ضمنوا له عدوانه فأمدوه بأسباب القوة جميعاً، وهيأوا له من ثم، بحمايتهم الدائمة له، دوافع الاستمرار في عدوانه؟!

وهل من يرتجي خيراً من "المجتمع الدولي" الذي هو الغرب، وبلغة أخرى الولايات المتحدة وملحقاتها الأوروبيات، إلا ذاك الواهم الذي يصدق عليه قول الشاعر: كالمستجير من الرمضاء بالنار؟!

...وفي الدرس الثاني، إنه في حين أن الصمت العربي والإسلامي شبه المطبق حيال المحرقة الفلسطينية المستمرة، وتراجع العرب في مجلس الأمن أمام المندوب السامي الأمريكي فيه جون بولتون، متخلين عن مطالبتهم بإدانة إسرائيل على ارتكابها مذابح غزة الأخيرة، والاكتفاء ببيان رئاسي... أي عملياً ترك الفلسطينيين يواجهون وحدهم حرب أولمرت المفتوحة ضدهم باعتبار أن السلطة الأسلوية قد غدت عنده كياناً معادياً، الأمر الذي من شأنه أن شجع خليفة شارون لأن يطلب دعماً أمريكياً لخطة "التجميع" في الضفة، أو الترجمة الأولمرتية لفك الارتباط الشاروني... فإن الدهاء والتمسك بالحقوق الوطنية المدعوم بما يلزم من الإرادة السياسية لدى الإيرانيين قد مكنهم من أن يقولوا لغرب هراوة "المجتمع الدولي" في أوج فجورها: اغتظ ما شئت ومت بغيظك!

...وما دمنا بصدد الحديث عن وجوب استخلاص الدروس أو العبر مما يجري من حولنا، فإن على العرب، والعبرة لمن يعتبر، أن يتنبهوا جيداً إلى حقيقة بدأت تطل برأسها من بين الركام والدمار والجثث التي جفت في جبال أفغانستان والمضرجة التي تكدس يومياً في العراق الدامي المقاوم، وهي حقيقة يرفدها ما تتناقله وسائل الإعلام من أنباء عن حركة بدأت تشمل قارات العالم الخمس، تقول: أن الأمريكان لم يعودوا بعد قدر هذا العالم... بدأ العد العكسي لاستباقية البلطجة... العالم يتململ... هاهو الإيطالي برلسكوني يلحق بأخيه الإسباني اثنار... هاهو تمرد الحديقة الخلفية الجنوبية للإمبراطورية الشمالية تتوالى فصوله بتسارع لم يخطر لها على بال... أوجنتا أولاما في البيرو يلحق بركب ايفو مورالس بوليفيا... بتابار فاسكويز في الأروغواي، ونيستور كريشنر في الأررجنتين، ولولا دي سيلفا في البرازيل، وفي المقدمة من هؤلاء هوغو شافيز في فنزويلا... ولا ننسى زميلتهم سيدة تشيلي الجديدة... هاهي القارة اللاتينية تفك العزلة المضروبة على العناد الصامد لعقود على بعد أميال من فلوريدا في كوبا فيدل كاسترو... واستطراداً:

ها هي الصين بعد أن تحايلت لتصنع معجزتها الاقتصادية تبدأ في البحث عن دور يليق بما دفعته في أوصالها هذه المعجزة من أسباب القوة فطفقت تتلفت من حولها... وهاهو الدب الروسي يحن لأمجاد أيامه الغابرة، حيث يحاول القيصر بوتن المصالحة بين لينين وإيفان الرهيب، ليخلص بهذه المصالحة إلى تقمص ظل بطرس الأكبر... الأمر الذي جعل داهية مثل كيسنجر يتحمس لزيارة بوش "النووية" ذات الأهداف الاستراتيجية إلى الهند، باعتبارها عنده كانت "جراحة دقيقة في ملف شائك"... بيد أنه، إذ يكتفي بمردودها في مجال ما دعاه محاربة "الإرهاب الإسلامي" فحسب، يحذر صاحب الزيارة من أن "الهند لن تقبل أن تكون عازلاً واقياً لأمريكا في علاقاتها مع الصين، وسترفض أي مساع لاستخدامها لتلعب دوراً كهذا"...

...إذن، على العرب أن يدركوا، كما بدأ يفعل اليوم الكثيرون في العالم، أن سطوة أحادية القطبية الكونية بدأت تتآكل رويداً رويداً بفعل حماقاتها الاستباقية أولاً، وتململ عالم لا ينقصه تنامي الإرادات المعترضة على سياساتها، ولم يعد يتحمل بلطجتها ثانياً... عالم تلوح له عياناً، إثر تعثر حظوظ حروب بوش الكونية، تباشير حقبة قادمة تتعدد فيها لا محالة المراكز التي سوف ترث هذه القطبية المتآكلة.