لا يملك المرء، وقد انقضت على حرب العراق سنوات ثلاث، إلا أن يستعيد صدّام حسين التكريتي يوم كان حاكماً. وليس مبعث الاستعادة أن الرجل حيّ يُرزق، يطلّ بين الفينة والأخرى عبر شاشة التلفزيون محاطاً برجال يشبهون سارقي الدجاج من قرى أرعبها بدو مجاورون.

فصدّام الذي يُحاكَم الآن، سبق له أن عالج الهزيمة التي مُني بها في الكويت، وما انجرّ عنها من تقليص لسلطته وتجفيف لعائداته، بجرعة إسلام متخمة حقن عروبته البعثيّة بها.

على النحو هذا نستعيده في ما تطالعنا أخبار سوريّةٌ تقول إن البعث، في مسقط رأسه، سوف يتيح إنشاء كليّة للشريعة في حلب، ومصارف إسلاميّة، فضلاً عن مدارس من هذا القبيل نمت في السنتين الماضيتين وتكاثرت. وفي موازاة التعليم والاقتصاد، يتعاظم التركيز هناك على دور الدين في الايديولوجيا الرسميّة، كما يزداد التعويل على وجوه إسلاميّة كمحمد حبش تُستعرض على الشاشات مساحيقَ أنجع تنظيفاً من مساحيق <علمانيّة> كعماد فوزي الشعيبي.

و<العروبة> و<الإسلام>، منذ نيّف وعقدين، صارا أشبه بعروسين في زفاف دائم. فهما، على عكس <عروبة> النهضة الأولى وعلى عكس <إسلام> حسن البنّا وخصوصاً سيّد قطب، ينامان، على سنّة الله ورسوله، في سرير واحد. وهو قران أقامته ظروف معروفة كان في عدادها ثورة الخميني وموجبات الانفتاح عليها، والحلف الذي شدّ دمشق الى طهران ضامّاً إليه <حماس> و<الجهاد> و<حزب الله>. فهذه جميعاً أثّثت بيت القرينين ومدّته بالأحلام السعيدة والعسل الصافي.

لكن سبباً آخر لا يقلّ أهميّةً زجّ الكيميائيّ الدمشقيّ في المختبر هذا. ذاك أن المعارضة الإسلاميّة التي انفجرت عام ,1982 شجّعت على المداواة بما كان الداء. هكذا بدأ عبد الله الأحمر وصحبه يقصّون رؤوسهم بما يلائم العمائم. ولئن استحال يومذاك رسم ميشيل عفلق، وهو منفيّ دمشق ونزيل بغداد، حجّةً من حجج الإسلام، فهكذا رُسم زكي الأرسوزي. والمهم، في آخر المطاف، الرسالة لا الرسول.
بيد أن الرسالة نفسها كانت تشي بأمور أخرى. ففي سلوكه الموصوف أعلن <البعث> أنه، أمام المنعطفات، لا يملك شروى نقير. فهو، في الأفكار وسوس المجتمعات، سيّد البراءة والدهشة. وإنما بالمعنى هذا، هو عروبيّ <عملي>، يحكّم سيوفه في رقاب العزّل، مستجيباً لنصيحة عنترة، من دون أن يضيّع وقته في التأويل والتعقّل. فمن فصول تاريخ البعث أنه حين استولى على الحكم في العراق للمرّة الأولى، وكان ذلك لأشهر من عام ,1963 استحضر ثلاثة حزبيين كبار، سوريين ولبنانيين، كي يضعوا له برنامجاً اقتصاديّاً مُستوحى من <الاشتراكيّة> بوصفها <ظفر الحياة على الموت>. وخطّ هؤلاء ثلاث أوراق أو أربعاً هي عناوين الى البداءة أقرب، من نوع أن المراكمة خير من التبديد، والعدالة أفضل من الظلامة. فحين رُفع الطعام عن أوّل مائدة جمعت الضيوف الى رفاقهم المضيفين، انتهت الأوراق <الاقتصاديّة>، وقد طُرّزت بالزيت وبُلّلت بالويسكي، الى حيث ينبغي لها أن تنتهي.

وعلى النحو هذا لم تؤسّس ثلاث وأربعون سنة من حكم البعث في سوريا، وخمس وثلاثون من حكمه في العراق، أكثر مما يؤسّسه الغبار إذ يقيم فوق الخشب. فتراوح الجهد النظريّ في الاقتصاد بين <أمّموا يا شباب> إبّان الحقبة <الاشتراكيّة> السابقة، و<خصخصوا يا شباب> مع الميل <الليبرالي> الذي شقّ القانون 101 طريقه. وقس على ذلك في الأوجه الشتّى لصناعة الوعي القوميّ الذي يُفترض أنه الوعي المهيمن.

وهو جميعاً ما يسمح بالكلام على رياديّة استحقّها صدّام حسين، هو الذي تنبّه مبكراً الى أن خردة الفكر العفلقيّ لا تليق بمن تجاوز المرحلة الابتدائيّة. أما في الملمّات، فيُعهَد بالحلّ الى السلف الصالح. ولئن حالت ظروف معروفة دون إفادة الرئيس السابق من خبرته تلك، فقد أفاد منها أبو مصعب الزرقاويّ وأشياعه، حاصدين ما كان زرعه حبيس القفص البغداديّ.

ولا يتمنّى إلا سيّئ النيّات والمقاصد أن تؤول الأمور في دمشق الى ما آلت اليه في جوارها العراقي. بيد أن الخوف من البيانوني، وقد عُطف عليه خدّام، لا يُطرد بأفكار البيانوني وسلوك خدّام من دونهما. فالشبح لا تطرده أشباح من صلبه ولو سُمّيت محمد حبش. وتروي <حكمة> صينيّة قصّة صينيّ لم يكن حكيماً، جاء بقطّة كي تأكل الفأر الذي يعيث ببيته، فاضطر الى الإتيان بكلب يأكل القطّة، ثم بضبع يأكل الكلب، ثم بأسد أكل الضبع ولم يشبع، فانقضّ على صاحب البيت والتهمه.