تستعيد المسيرة الحوارية حول الطاولة المستديرة أفقاً جديداً في التوجه والتعامل مع سوريا، أفقاً يتخذ احتواء لمشكلات خلفتها التطورات التي أدت الى استشهاد الرئيس الشهيد وسلسلة الاغتيالات التي تنتظر كلمة القضاء في النهاية مهما طال الزمان وابتعد.

فسوريا ولبنان تأومان سياميان في المفهوم الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي لا ينفصل أحدهما عن الآخر.
وهذا هو الأساس الذي يبنى عليه كل تفكير مستقبلي.
لكن في تداعيات الخطاب السياسي الراهن فإن تفكيرنا المستقبلي يفتقد أحيانا التطورات الاقليمية والدولية المتسارعة والتي تلقي ببعد السلام الاسرائيلي على الواقع اللبناني.

وهكذا افتقدت الرؤية في كثير من المواقف تأملاً وطنياً ومنهجاً متتابعاً لطاقات العمل، اللهم إلا اذا استثنينا المقاومة الوطنية وفعالية تنظيم المقاومة الاسلامية والتي أدت الى اندحار العدو وأعطت بذلك المثل، لكن في سوى ذلك يتبدى لنا المشهد أحيانا وكأنما الساحة الوطنية أضحت كبرج بابل حين افتقد ساكنوه لغة مشتركة، وذلك مثل لكل انهيار لا يحسن فيه أبناء الوطن مسيرة متناغمة.
فاللغة المشتركة التي نعنيها هنا في تلك التي تصوغها منطلقات متعددة لكنها تتحد في نسيج المشكلات الجامعة، فليس المطلوب اتفاقات بين خلفيات متعددة بل موافقات مسار لمواجهة مشكلات متجددة كلما تخلف المسار عن ركبه، ومن هنا فهي ليست بكل تأكيد تلك التعابير التي تملأ الفراغ الفكري للسياسيين فيرددونها لتأكيد حضورهم في الفضاءالسياسي.

فسوريا ولبنان، كلاهما حقيقة جغرافية وتاريخية تتداخل في مساحة كيان كل منهما الحقائق السياسية والاقتصادية والامنية ايجابا أو سلبا.
فمنذ الخمسينيات ومع الانفصال الجمركي بين سوريا ولبنان واستقلال النقد اللبناني عن النقد السوري هناك مشكلة سورية في لبنان وبالمقابل هناك مشكلة لبنانية في سوريا.
والمشكلات هذه مهما اختلفت مظاهرها كانعكاس لتطورات الحكم في سوريا فإنها في حقيقتها عرض من أعراض الطرح السياسي والايديولوجي لمدى السيادة وحدودها رغم تداخل جغرافي واجتماعي واقتصادي لا انفكاك له لأنه من طبيعة التاريخ والارض والمدى الحيوي لكل منهما.
هذه التوأمة السياسية تتطلب تحديدا لسيادة سياسية كتوأمي ولادة يتعرض أحدهما أو كلاهما لخطر الموت اذا ما تم الفصل بينهما.

فسوريا هي المدى والطريق الى ما وراءها اذا ما شئنا لاقتصادنا نمواً وهي كذلك الحضور الاجتماعي والثقافي اذا ما اتخذ فضاؤنا اللبناني مداه الفاعل، وهي أخيرا الامن المتبادل بين جوار الساحة الواحدة في واجهة الخطر الاسرائيلي.

ولعلنا اليوم في مفاهيم التنمية أكثر من أي يوم مضى نشعر بذلك الخطأ التاريخي المشترك الذي تلبس قيادة البلدين في بداية الخمسينيات، وذلك حينما تم الانفصال الجمركي والنقدي بين البلدين، فأدى ذلك الى شرخ كبير في النمو الاقتصادي حينما اختلفت نمطية الانتاج الزراعي والصناعي في تكاليفها فحاجزت بين وحدة السوق اللبنانية السورية وأدت الى نزوح العمالة السورية ومنافستها للعمالة اللبنانية بسبب فروقات الكلفة.
فالمسوغات التي انطلقت من إشكالية حصة كل من البلدين قد انحجبت عنها رؤية روح معاهدة سايكس بيكو التي رسمت خطى القرن العشرين وتفاصيل مراحله في لعبة الكبار فبددت نسق التاريخ لصالح مشروع اسرائيل.

ففي المرحلة التي بدأت فيها أوروبا وعقب الحرب العالمية الثانية تبحث عن وحدتها الاقتصادية مع مشروع شومان للوحدة الاوروبية 1951 المتصلة بالطاقة، كما نشأ مؤتمر جنيف 1947 ومؤتمر نيس في فرنسا الخاص بالتبادل التجاري في وحدة السوق ورفع القيود الجمركية، وقد تطور اخيرا الى مؤسسة <الجات>، فقد سيطرت على الجانبين اللبناني والسوري حدود النظرة الراهنة في تداعيات الخمسينيات والاربعينيات وما قبلها منذ بداية القرن بكل ما حملت من تنظير وتأسيس لروحية محلية.

هكذا نظر كل منهما الى مفهوم السيادة الوطنية في حدودها الدستورية مشفوعة بخلفيات الصيغة اللبنانية من ناحية، وهي الصيغة التي أسس لها الرواد الاول من المسيحيين جيل شارل قرم وميشال شيحا وسواهم، ومن ناحية اخرى خلفيات الصيغة السورية في شموليتها التراثية التاريخية ثم عقدة جيل السياسيين السوريين من تقدم لبنان في وثيق اتصال المسيحيين بالمتوسط وأوروبا في زمن الاندفاعة الاقتصادية التي أعقبت الحرب العالمية.

ان تعبير يوسف السودا الشهير في تنظيره لطبيعة الصيغة اللبنانية يكشف لنا عمق الخلفيات التي لم تتبدل وربما هي اليوم تتجدد، فيوسف السودا يقول:
<الانفصال عن الاقضية الاربعة موت اقتصادي والاتحاد مع سوريا موت سياسي>.
هذا التعبير يشكل خلفية النظرة المسيحية السياسية الى سوريا وثقل وجودها في لبنان، وهو يختصر في إيجازة صفحات واسعة من المفاوضات والمجادلات التي رافقت إعلان لبنان الكبير على مدرج قصر الصنوبر.

فالأقضية الاربعة في النظرة المعمقة هي مجرد مدى لمحورية لبنان الجبل. وبقدر ما عطلت هذه النظرة نطاق التلاقي وجعلت من كل حوار حواراً بابلياً موشحاً ببعض العموميات والعواطف فإنها أكدت من ناحية اخرى تداخل الواقع السوري في المفهوم اللبناني.

هذه المنطلقات التي تحكمت في الانفصال الجمركي والنقد بين سوريا ولبنان هي التي تحكمت ايضا في مسيرة لبنان في ثورة 58 وما يليها واضطراب الواقع اللبناني في الستينيات وكارثة الحرب اللبنانية التي أفضت الى اتفاق الطائف الذي هو تجسيد لتوازن فتح الابواب على مصاعب جديدة لم تكن في الحسبان.

فالمنابر السياسية منذ الخمسينيات حتى الآن هي وليدة أزمة الصيغة اللبنانية لدى المسلمين كما هي لدى المسيحيين، فلكل من المتحدثين على طاولة الواقع السياسي زاد من تلك المنطلقات التي أسست لثنائية هي مرجل قطار الحركة السياسية في مسيرتها نحو تأليف الحكومات منذ عهد الاستقلال. حكومات هي مزيج من التوازن لا توزن به خطة اقتصادية قادرة على توجيه الخيارات. فالخيارات المتعاقبة لم تفلح منذ الاستقلال في تسيير اقتصاد البلاد، ولدينا مثال حكومة الرئيس صائب سلام والخطة الخمسينية التي انطلقت من خلوة بيت الدين بقيادة الرئيس فرنجية عام 1971 اذ سرعان ما تبددت في محيط التوازن الفوضوي الذي بدأ مع الخمسينيات.

وقد أدى ذلك الى اعتبار الاداة الحكومية محور ثنائية تميز بها الخطاب السياسي هو سياسة المطالبة النابعة من سياسي الاقضية الاربعة المبنية على الغبن في مواجهة سياسة الامساك بالمراكز الاساسية لصالح الجبل المسيحي انطلاقا من الخوف الذي يؤدي الى الاحباط، وهذا يعني أن رؤيتنا السياسية عاشت طيلة عهد الاستقلال من الوجهة النفسية خارج مفهوم الدولة وروحيتها كأداة لتسيير المجتمع وتفعيل قدراته.

إن لغة الحوار المستقبلي لتكون فاعلة لا بد أن تلج عمق منطلقات الصيغة اللبنانية، فالسيادة والكرامة الوطنية لا بد من تحديد مضمونها في ظل خيارات المستقبل لا في ظل نماذج ثابتة تزامنت مع أفكار نشوء الدولة اللبنانية.
إن علينا في المرحلة الجديدة من اتفاق الطائف ومائدة الحوار أن يراقب الاطراف دون استثناء تلك المسارب التي تبدد زخم العمل وفاعليته في الوصول الى أهداف محددة، فالتنمية فكرة سابقة على وسائلها، وهذه الفكرة لا بد أن يوصلها نسيج وطني تتآلف ألوان خيوطه المتعددة في بهاء وحدة الاداء كتعبير عن قوة السيادة.

فالسيادة الوطنية هي سيادة القرار في خيارات تفرض حضورها على واقع البلاد، وهذا الخيار ينطلق دائما من المدى الجغرافي والسياسي لأمن الوطن. اذ ما دام ثمة استراتيجية مشتركة تستشرف الرؤية البعيدة، فالسلبيات التفصيلية تجد علاجها في آلية العمل الحكومي المشترك وفي خصوصية كل سلبية.
من هنا فإن تعميق الرؤية السياسية لمستقبل البلاد في مرحلة الحوار المرتقب يتطلب منهجية مكاشفة يقلب معايير الخطاب السياسي.

فالمعاصرة تتطلب امتداد النظر السياسي في الساحة الدولية لحساب مستقبل البلاد. وفوستردالس حينما جاء الى بيروت في ظل أزمة عام 1958 وقال ان هذه المنطقة منطقة فراغ، انما كان يصف أزمة المعاصرة في الثقافة السياسة لدى مراجع القرار في المنطقة.

فالسيادة لكل من سوريا ولبنان ليست ايديولوجية حوار كما يحاول بعض المنظرين العيش في خيمتها، بل هي مساحة حياة ووجود على مائدة العالم تبنى عليها ايديولوجية الرؤية المستقبلية، وهذا يلقي على سوريا كما على لبنان مسؤولية العمل المشترك.

فالنمو الاقتصادي في لبنان محكوم اليوم بالمدى السوري، وبالمقابل فالنمو السوري محكوم هو الآخر بالمدى اللبناني، لذا لا بد لإيقاع واحد أن يسكب تكاملا فاعلا ومميزا، ومن هنا لا يمكن لسوريا أن تبني اقتصادا وتحقق تنمية دون أن تجد في لبنان رجع صداه، وبالمقابل لا يمكن للبنان أن يضرب على وتر التنمية دون تناغم في خطى الاقتصاد السوري، وهذا الاتجاه لا يزال يمشي على استحياء.
فالاقتصاد كما يقول أحد المفكرين هو <إسقاط البعد السياسي على نشاط إنساني معين> وهذا لا يعتمد على المصادفة التراكمية بل على الخطة التي تجند الروح الوطنية في كل البلدين كيما تخرج من بين ذلك الركام الذي خلفته قناعات وشعارات العقود الماضية من العلاقات بين لبنان وسوريا.
إن على الحوار الوطني أن يستعلى على سلة الطائف المبنية على التوازن الذي أرست قواعده معادلة يوسف السودا.

فالتوازن الطائفي قد أصبح عبئا على خطى التنمية حينما يطرح الانماء المتوازن ضمن معايير الجغرافيا الطائفية، ولنا الامثلة على ذلك في الصعيد الاقتصادي والتربوي وفي البنية التحتية للمرافق الاقتصادية العامة. فإنشاء مرفأ في الشمال أو منطقة حرة في طرابلس يستدعي منطقة حرة في ساحل المتن مثلا، فالمرافق الاقتصادية تدرس دائما برؤية أفقية ذات معايير مناصفية لا برؤية عمودية ذات جدوى في مسيرة وحدة الانماء الوطني القائم على تجنيد الطاقات جميعا من أجل اقتصاد موحد.
فالانماء المتوازن ليس توزيعا متوازنا بل تجميعا متوازنا لا يترك طاقة في البلاد بشرية أو جغرافية إلا ويسلكها في خطة واحدة تفيء بخيراتها وبالتساوي على الجميع.

ينبغي لكي نفسد روح العصر الاسرائيلي القائم على الحدود الطائفية أن لا نقلد مشيته وننسى مشيتنا الثقافية المنبعثة من طبيعة تكويننا الاجتماعي.
ففي مواجهة روح العصر الاسرائيلي الامر يتطلب من سياسيينا ثقافة المعاصرة أي بناء استراتيجية المجال الحيوي النابع من ضروراتنا.

هذا يعني أن حكماً سيأخذ مسؤولية المستقبل لا بد أن يأتي بروح جديدة لا أن يدير واقعا تتعاصر فيه منافع الطوائف بل مستقبلا تتناصر فيه جهودها لخدمة دور يفتح الباب واسعا لجيل جديد في سوريا كما في لبنان يستعيد دور البلدين في ايقاع واحد، ايقاع تكون الطوائف والمذاهب فيه هو الأساس لاستقامة الاداء وليس الاساس السياسي لبناء الدولة.

إن علينا أن نبني سياسة لا أن نتعامل مع واقع سياسي تبنيه المصادقة التراكمية المجللة بعنفوان سيادة لا تسود فيها العدالة والقدرة الفاعلة على تلبية الحاجات الاساسية للمواطن والتي تبدو في المدرسة والمياه والكهرباء وكل طارئ غير محسوب.

<فبيروت واحد> مجرد تعاون دولي عارض ومؤقت، لكن مواجهة العجز لا يحتاج الى كمية من الدولارات بل الى كمية من حسن الاداء المتفاعل مع خطط التنمية، وهو بالاحرى لا يعتمد على تكنولوجيا المعلوماتية التي تستحوذ على فكر بعض المزهوين بالرقم من سياسيينا الجدد بل على وظيفة المعلوماتية في بناء خطة تنمية وطنية تمنح السيادة الوطنية استحقاق السيادة.