للمُطمئنين الى «التقليد المركزي العريق للدولة في مصر»، ولتماسك مجتمعها، أن تُقلقهم أحداث الاسكندريّة وتحملهم على مراجعة محفوظاتهم الأزليّة. لكن العنف الطائفي الأخير الذي تلى أحداثاً من الطينة نفسها، عُـدّت بالعشرات في السنين الأخيرة، رافقه «احتفال» اللبنانيين بالذكرى الواحدة والثلاثين لاندلاع حربهم الأهليّة-الإقليميّة، وتوطّد «البُنية التحتيّة للحرب الأهليّة» في العراق، حسب الوصف الذي أطلقه زلماي خليل زاد على ميليشيات البلد المذكور. وإذ رصد، ويرصد، عدد من الكتّاب استمرار أسباب الحرب في واقع اللبنانيين وأفكارهم، لم يترك العراقيّون في وصف نزاعهم زيادةً لمستزيد. ذاك ان السؤال الذي يستأثر راهناً باهتمام المراقبين، الغربيين منهم وغير الغربيين، يدور حول تسمية ما يجري هناك من قتل وخطف وتطهير مذهبي، أهو حرب أهليّة، أم تمرين عليها، أم جنس آخر غير معهود من نزاعات السكّان المسلّحة؟

وما بين الجزائر التي أنهت بالأمس مأساتها ولم تقلب صفحتها بعد، والسودان بمجزرته الدارفوريّة وهشاشة السلام الجديد بين شماله وجنوبه، وفلسطين المشطورة بين «فتح» و»حماس» انشطاراً يضعها على حدّ السكّين، وما ينضح به الخليج على إيقاع التخصيب الإيراني بعد زلزال الطوائف العراقية، يتبدّى حجم المسافة التي لا تزال تفصل منطقتنا عن العيش في حال طبيعيّة، اي في دول-أمم مستقرة وفي شعوب منسجمة متوافقة.

وقد يقال، بحقّ، إن أجسامنا الأهليّة التي أجبرتها الحرب الباردة على التكيّف مع تلك الأوعية السياسيّة، تعلن اليوم نفورها من الأوعية تلك، وتروح تستعرض رغبتها العميقة والمكبوتة في رفض التعايش مع آخر ديني أو طائفي أو إثني. لكن وصفاً كهذا، إذا ما صحّ، استدعى نقاشاً واسعاً بين الجماعات المعنيّة، لا سيما «سياسييها» و»نُخبها»، في البدائل الممكنة. فإذا كان مطلوباً العيش في حال طبيعيّة واجتناب العنف والتبديد وأعمال التهجير القسري، غدا لازماً نزع التحريم عن مناقشة الأوطان والحدود والتقسيمات والإرادات.

غير اننا، في المقابل، ماضون في العيش بين حدّين، أحدهما قاتل للحاضر والثاني عادم للمستقبل: فمن جهة، نعجز عن تدبّر أمورنا في الدول القائمة، ومن جهة أخرى، نُبدي جبناً سياسيّاً وثقافيّاًً يحول دون النقاش، بل دون الاعتراف بالمشكلة أصلاً.

وكم هو دالّ ذيوع عبارة «دولة لكل مواطنيها»، التي خلنا أنها شعار للمواطنين العرب في إسرائيل، فإذا بها مطلب كل واحدة من أقليّات الدول العربيّة، يشقّ ستر «الأخوّة» والإنكار ويظهر شيئاً فشيئاً الى العلن.

وفي قفزة جماعيّة الى أمام غامض، تتزايد الأوصاف والاقتراحات التي تتحاشى المشكلة المذكورة وتلغيها توهّماً. فما بين داعين الى «المقاومة» و»الممانعة» بذريعة أن المشروع الاستعماريّ هو المسؤول عما يجري، وداعين الى «الديموقراطيّة» بحجّة أن نقصها هو العلّة الأولى، تتكامل لوحة تجهيل الواقع وما ينجرّ عن التجاهل من إطالة عمر الدم والدم المحتمل.

وهو سلوك طفليّ يلوذ به تلامذة كسالى مرّ عليهم القرن العشرون مرور الكرام، بقيام الاستعمار وانحساره، وبحربيه العالميتين وهزيمة الامبراطوريات والفاشيّة، ثم بحربه الباردة وانهزام الشيوعيّة، فضلاً عن ثوراته المعرفيّة والاتّصاليّة وغير ذلك. فهم لا بنوا دولاً ومجتمعات، في تلك الغضون، ولا أنشأوا شرعيات سياسيّة، زمنيّة وحديثة، تسند الدول والمجتمعات تلك. بيد ان التلامذة الكسالى، وقد أخذوا ببعض شكليّات الحداثة والدعوات المساواتيّة التي تعطيهم مكانة الكبار والناضجين، يرفضون الإقرار بأنهم طوائف وإثنيّات متناحرة فلا يتعرّفون، بالتالي، على انفسهم إلا شعوباً تامّة ناجزة ينقصها شيء واحد وحيد هو «المقاومة» عند الكثرة و»الديموقراطية» عند القلّة.

لا بل، ومن موقعهم هذا، يعتلون منصّة الأستاذيّة فتُبدي «نُخبهم» آراءها في الصراعات الكبرى وفي نظام عالمي جديد يولد في قلب المعركة وفي لهب ينتشر فيما النار، عندنا، كأنها لم تُخترع بعد