كنا منذ انفجار الصراع العربي “الإسرائيلي” نردد القول: مصيرنا نحن العرب يُكتب في فلسطين. هناك مشكلة وربما قضية أو قضايا في كل قطر من الأقطار العربية، وهذه المشكلات والقضايا تشغل أصحابها بطبيعة الحال، فالجمرة تحرق حيث هي. ولكن تبقى فلسطين هي قضية العرب المركزية، جميع العرب معنيون بها ويَزِنون أداء قادتهم بميزان ما يقومون به أو لا يقومون في خدمة هذه القضية القومية وفي ضوء ما يصيبون من نجاح على هذا الصعيد.

وثمة إدراك عام بين العرب جميعاً أن كثيراً من قضاياهم، حتى تلك التي ترتدي طابعاً محلّياً أو قطرياً، هي من نتاج تلك القضية أو من إفرازاتها أو تداعياتها. ولعلنا نحن في لبنان أكثر من يعي هذا الواقع بالنظر إلى تجاربنا عبر مسلسل الأزمات الوطنية التي ألمّت ببلدنا منذ الاستقلال.

هكذا، كنا نقول مع من يقول إن مصيرنا نحن العرب يُكتب عملياً في فلسطين. ولكنّ نظرتنا هذه تبدّلت كلياً بعد الحرب الأمريكية على العراق، فبتنا نقول إن مصيرنا نحن العرب إنما يُكتب في العراق. وما زالت فلسطين هي قضية العرب المركزية، وما زال المصير الذي ستؤول إليه هو الذي سيخطّ معالم الطريق أمام العرب مُستقبلاً، شعوباً وأمة. ولكنَّ واقعاً مهمّاً في مسار قضية فلسطين تكوّن عبر سنوات النضال والممانعة الطويلة، وأضحى يغلب على تفكيرنا، ألا وهو أن الشعب الفلسطيني، على الرغم من اللاتكافؤ الفادح في ميزان القوى مع العدو ومن وراءه من قوى العالم، وعلى الرغم من كل ما تعرض له هذا الشعب من عنت وقتل وتهجير وتدمير لممتلكاته، لم يستسلم، ولا يبدو أنه في وارد الاستسلام في المستقبل المنظور. فهو يقاوم الاحتلال في عقر دار العدو الغاصب، حتى على مشارف عاصمته تل أبيب. فقد اكتسب من الصبر والمناعة والقدرة على التحمّل وإرادة الصمود والكفاح ما أضحى في مستوى الرّد القاطع على التفوّق العسكري الكاسح للعدو ومن يسانده.

أمام هذا الواقع المأسوي وإنما المشرّف في فلسطين، وأمام مستجدّات المشهد العراقي، حيث يُنفَّذ مشروع فتنة يومية في ظل الاحتلال الأمريكي. بتنا نقول إن مصير العرب يُكتب في العراق. فالعراق اليوم مسرح لمحاولات يومية لإشعال الفتنة بين عربي وكردي كما بين سني وشيعي. وفي حال انفجرت هذه الفتنة وأفلتت من عقالها، لا سمح الله، فإن تداعياتها لن تقتصر على العراق بل ستعمّ المنطقة برمّتها.

فليس في المنطقة العربية مجتمع لا يقوم على شيء من التعددية الفئوية، طائفياً أو مذهبياً أو إثنياً. فالتعددية المذهبية، بين سنة وشيعة، قائمة في المملكة العربية السعودية كما في سائر أقطار الخليج العربي. وفي مصر كما في الأردن تعددية طائفية، فيهما المسلمون والمسيحيون. وفي لبنان تعددية مذهبية وطائفية وإثنية. وفي المغرب العربي تعددية إثنية. في كنف هذا الواقع فإن الفتنة العراقية، فيما لو أفلتت من عقالها، لا سمح الله، ستكون بمثابة الصاعق لتفجير مثيلاتها في سائر أرجاء الوطن العربي. لذا القول إن مصير العرب يُكتب اليوم في العراق.

ومشروع الفتنة في العراق ليس حدثاً طارئاً أو عارضاً، وإنما هو مشروع مدبّر من أجل أن يكون شرارة فتنة تعمّ المنطقة بأسرها. فالفتنة هي الفوضى بأبشع صورها. والفوضى، على ما يبدو، مطلوبة لهذه المنطقة، ويُراد لها أن تكون بنّاءة أو خلاّقة. فما نسمع عن فوضى بنّاءة أو خلاّقة، هو اختراع أمريكي. فالفوضى تمثّل حالاً سلبية للغاية تتّسم بانعدام الانتظام والانسجام والقانون، وهي نقيض الاستقرار. ولا نجد تفسيراً لهذا التجديف في التعبير إلاّ بوجود مشروع يُراد تحقيقه من وراء الفوضى المتوخّاة. والمشروع هو بدعة أمريكية أخرى تُسمى الشرق الأوسط الكبير، وهو يرمي إلى افتعال كيان جديد يضمّ عرب المشرق وشعوباً شرقية أخرى.

الشرق الأوسط الكبير مشروع يرمي ضمناً إلى القضاء على العروبة نهائياً كفكرة وكقوة دفع في المنطقة. فالمشروع يسلخ عرب شمالي إفريقيا عن عرب المشرق، ويضمّ إلى عرب المشرق إيران وتركيا وقبرص و”إسرائيل”. فماذا يبقى عند ذاك من العروبة؟ هكذا تتخلّص “إسرائيل” من هاجس يطاردها منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر عندما شهر سلاح العروبة في وجه الكيان الصهيوني، فأضحى همّ “اسرائيل”، ولا عجب، الإجهاز على فكرة العروبة نهائياً. فجاء الاحتلال الأمريكي للعراق ليهدي “إسرائيل” هذه الفرصة النادرة على طبق من فضّة.

نحن لا نرى فارقاً، حتى ولا في التفاصيل، بين ما يُسمى استراتيجية أمريكية في الشرق الأوسط والسياسة “الإسرائيلية” أو الاستراتيجية الصهيونية. ونكاد نقول، كما قال سوانا قبلنا: لا سياسة للولايات المتحدة الأمريكية في منطقتنا، بل هناك سياسة “إسرائيلية” صهيونية تلتزمها الدولة العظمى.

من الشواهد الحديثة على ذلك حملة الإدارة الأمريكية الشعواء من أجل تجريد حزب الله في لبنان من سلاحه. فالمقاومة الوطنية اللبنانية لا تزعج أمريكا من قريب أو بعيد، ولكنها تزعج الدولة العبرية وتهدّد أمنها. لذا كان إصرار الإدارة الأمريكية على نزع سلاح المقاومة، فكان القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي وكان إصرار من الرئيس الأمريكي، جورج دبليو بوش شخصياً، على المطالبة، في مناسبة وغير مناسبة بتطبيق ذلك القرار من دون إبطاء.

وكان شاهد آخر في الواقع العراقي. فقد شنّت أمريكا حربها على العراق بذريعتين سرعان ما ثبت بطلانهما كلّياً، إذ لم تجد قوات الاحتلال أي مخزون من أسلحة الدمار الشامل، ولم تعثر على أية قرينة أو بيّنة تثبت علاقة النظام العراقي السابق بتنظيم القاعدة. فانصرفت قوات الاحتلال إلى الحديث عن نشر الحرية والديمقراطية مسوّغاً للاحتلال. وهذه أكذوبة لم تنطلِ على أحد، إذ كيف تكون الديمقراطية من دون حرية وأين هي الحرية في ظل الاحتلال؟ اختصرت قوات الاحتلال الديمقراطية بصندوقة الاقتراع. فلما أجريت انتخابات جاءت النتيجة على غير خاطرها فتنكّرت لها.

بعد كل هذا يبقى السؤال مطروحاً: علامَ إذن كانت الحرب على العراق واحتلالها؟ لا يجد المراقب تفسيراً لتلك الحرب سوى أنها كانت لإراحة “إسرائيل”. فالعراق، على علاّت النظام الذي كان يستبدّ به وسلبياته، كان يُشكل قوة عربية خلفية تهدد أمن “اسرائيل”. فكان العراق من هذا القبيل يُشكل هاجساً للكيان الصهيوني. أين هي تلك القوة الخلفية اليوم وماذا بقي منها بعد الاحتلال؟ لا شيء. إذن كان هذا هو الدافع الحقيقي للحرب على العراق، إرضاء الكيان الصهيوني. إلى ذلك فقد أطلق الاحتلال شرارة الفوضى التي يسمّيها بنّاءة وخلاّقة في المنطقة انطلاقاً من العراق. والشائع أن “اسرائيل” موجودة بكثافة في المنطقة الكردية في العراق عبر انتشار قواعد استخباراتها “الموساد”. وقد يكون هؤلاء وراء الكثير من الجرائم الإرهابية التي ترتكب يومياً في سائر الأرجاء العراقية في محاولات لتفجير الفتنة على أوسع نطاق.

ويُراد من الفوضى أن تَؤول إلى تفتيت المجتمعات العربية كيانات مذهبية وطائفية وإثنية متصارعة. هكذا يسهل لمّها في كيان أوسع مطلوب هو ما يسمى الشرق الأوسط الكبير الذي يُتوخّى منه أن يكون سبيلاً للقضاء نهائياً على العروبة من جهة، وتسليط الدولة العبرية على المنطقة برمّتها من جهة أخرى، وذلك من حيث أن الكيان الصهيوني مُقدّر له أن يبقى صامداً موحّداً وسط الشرذمة المعممة.

لا غلو والحال هذه في القول إن مصير العرب يُكتب في العراق هذه الأيام، هذا إذا تُرك المخطط الأمريكي “الإسرائيلي” على غاربه، وينبغي ألا يكون متروكاً. فالأمل أن تُطلق مبادرة عربية على غرار المبادرة التي أُطلقت عام 1976 تجاه لبنان من قمة عربية عُقدت في القاهرة، كان منها قوات ردع عربية ولجنة متابعة عربية للعمل على رأب الصدع بين المُتخاصِمين اللبنانيين ووعد بدعم مالي إعماري. إنّ تخلي العرب عن العراق على النحو الذي نَشهد غير مفهوم وغير مقبول. لعل السبب هو خشية الحكّام من إغضاب أمريكا.

ولكن أمريكا قد تكون في وارِد الانفتاح على المبادرة العربية تجاه العراق بعد انفضاح عجزها المطبق عن الإمساك بالوضع الأمني في العراق ووقوعها في حرج شديد داخل أمريكا كما على المستوى الدولي. ثمة مؤشّرات على مسعى أمريكي لإجراء محادثات مع إيران حول الوضع العراقي. ومن المقدّر أن يكون محور البحث إمكان إنشاء قوة عربية مشتركة تشغل فيها سوريا حيّزاً مرموقاً، فتمكن أمريكا من إعادة نشر قواتها في العراق أو سحبها كلّياً. ووجود القوة السورية أساسي في هذه العملية لدواعٍ لوجستية نظراً لامتداد الحدود السورية العراقية المشتركة، وكذلك لما تتمتّع به سوريا من مكانة خاصّة باعتبارها غير محسوبة على أمريكا وغير موقعة على تسوية مع “إسرائيل”. ومن المسلمات أن سوريا لن تشارك في قوات عربية تنتشر في العراق من دون التوافق على هذا الأمر مسبقاً مع إيران نظراً إلى التحالف القائم بين الدولتين والذي توَثّق تحت وطأة الضغط الأمريكي على كِليهما.

المبادرة العربية المُحتملة تُشكِّل بارقة أمل في إنقاذ العراق من الشرذمة والفتنة. وهناك أمل في أن لا تعمّ الفتنة المنطقة حتى لو وقعت، لا قدّر الله، في العراق. ففي مقابل مشروع الفتنة الذي يطلّ على لبنان باشتداد الفرز المذهبي والطائفي، هناك وعي يتزايد في صفوف الشعب اللبناني وقياداته للأخطار المحدقة بلبنان، ومعه تصميم متعاظم على عدم الاستسلام لقدر الفتنة والتمسّك بأهداب الوحدة الوطنية.

وفي فلسطين صمود رائع وتصميم على تجاوز أخطار المرحلة بسلام مهما كلّف الأمر.

وسائر الدول العربية، على ما يَبدو، تتحسّب للمَحظور.

صحيح أن مصير العرب يُكتب في العراق. ولكن الأمل وَطيد في أن يبقى هذا المصير محصّناً على الرغم من كل الأخطار والتحدّيات.