ماهر سمعان

ليست ذكرى الجلاء التي مرت البارحة بحدث عادي في تاريخ سورية كما هي غير عادية في اي دولة تحتفل بمثل هذه المناسبات بما تعنيه من تحرر واستقلال حقيقي وسيادة كاملة على ارض الوطن, لكن وفي حالة سورية وفي حالتي خصوصا فانها تكتسب بعدا مختلفا تماما عن ذلك الذي تملك بالنسبة لأغلب السوريين... فهي مناسبة حزينة حيث تذكرني بجلاء من نوع آخر, جلاء مختلف تماما ومغيب بشكل فاضح عن اذهان الناس والدولة في سورية... جلاء لا يرحل فيه غريب أومستعمر عن ارض وطنك وقد كان يستغلك ويحكمك, جلاء لا يقوي الارادة الوطنية والاحساس بالانتماء والنصر العظيم كما هو الجلاء الفرنسي عن سوريه منذ 60 عاما, جلاء مخز....

ليس من الجديد الحديث عن الهجرة الكثيفة والمستمرة في بلاد كسورية او محيطها منذ ما يزيد عن مئة عام الى كل بقاع الارض, حتى قارب عدد السوريين خارج سورية من عددهم داخلها (وفي لبنان فانهم اكثر بكثير منهم في الداخل)؛ ذلك ما يراه العديد جلاءا مستمرا بدون انقطاع لا بل وفي تزايد دائم. تعددت الاسباب لهذا الجلاء (الهجرة) والنتيجة واحدة, سوريا تفتقد السوريين الذين اول ما كان عذرهم في ذلك, كان الاحتلال العثماني و تلاه الفرنسي بعده.... ولكن بعد الجلاء الرسمي لآخر جندي أجنبي من على أرض سوريا ظهرت الاسباب الحقيقية وراء هذه الرحلة الطويلة للسوريين خارجا نحو العالم, فمن الفقر الى الاضطهاد بكل اشكاله وصولا الى فقدان حقوق المواطنة كاملة على ارض الوطن وفقدان الكرامة...... فمن هم المستعمر الجديد الذي تلا الفرنسيين والذي يهجرنا من بلادنا ويحاول جعل الجلاء بكل ما فيه من كرامة وقيم عظيمة معكوسا فيجلوا سكان البلاد ويبقى المستعمر له الارض والوطن. ربما يكون المستعمر متجسدا كما يقول السياسيون السورييون والعرب هم الامبريالية والصهيونية والرجعية, العولمة و الغرب الرأسمالي.... ولكن الحقيقة اننا أخرجنا قبل الفرنسيين عشرات الجيوش الاجنبية وأجبرناها على الجلاء وما من مرة كان فيها الجلاء عكسيا كما هو الان مع عدم وجود اي جندي غريب في الوطن!!!!

تفتقد سورية في هذه المناسبة تنوعها الفكري ونشاط شعبها وحسه الوطني الحق, تفتقد للكثيرين من ابنائها خارج البلاد تفتقد لفلاحيها يزرعون ارضها ولمفكريها الذين طالما كانوا مشغولين بحب الوطن وبإيجاد طريقة لجعله وطن افضل للحياة... لنواجه الحقيقة فهو ليس بعد وطننا افضل للحياة, على الاقل بنظر الكثير من ابنائه المهاجرين غير المأمول بعودتهم وبنظر الاخرين الذين ينتظرون فرصة الهجرة ويسعون وراتها لا وراء البقاء في وطنهم..... انهم كثر حقا اولائك الذين جلوا عن سوريا والذين سيجلوا في السنوات المقبلة ليبقى الوطن امام سؤاله الوجودي الاكبر: فهل من مستقبل لبلاد أغلب شبابها يرى المستقبل في مكان آخر!!!!

اسميت الهجرة جلاءا, مع ان الجلاء هو خروج الغريب –وفقط الغريب- من ارض غير مرغوب به فيها, ولكن هل يشعر هؤلاء السوريون الساعون وراء الهجرة بأنهم من المرغوب فيهم أو انهم ليسوا غرباء؟ سؤال قاس حقا.... ولكن ان لم نتشجع ونجيب عليه ونجد حلا لهذه المعضلة الوطنية فقريبا سوف نبحث عن سوري حقيقي فلا نجده ونبحث عن سورية الحقيقية فلا نجدها ولا يبقى سوى الماضي لنتابع الغزل بأمجاده بدون ان نسأل انفسنا منذ الآ لمن نترك سورية!!