بعد الملف اللبناني - السوري، وبعد الملف الايراني، وبعد ملف التعاون في ما يسمى عملية مكافحة الارهاب. هل بدأت فرنسا تعود الى الصف الامريكي في ما يخص الملف الفلسطيني؟

في الملف اللبناني لم تكن واشنطن اكثر حدة من باريس، وبخصوص ايران كان دوست بلازي هو المتبرع بأكثر التصريحات عنترية ضد طهران، لتأتي قبيل ايام فضيحة استعمال طائرات السي أي ايه للمطارات الفرنسية، خاصة مطاري برست ولو بورجيه لنقل السجناء المختطفين من مختلف ارجاء العالم الى سجون الوكالة في اوروبا الشرقية والغربية. غير ان التحول ازاء فلسطين يتخد شكل صفقة من نوع آخر، صفقة يبدو فيها ان الدولة العبرية قد اشترت الموقف الفرنسي من خلال الاقتصاد. ففي حين تعيش فرنسا ازمة اقتصادية كبيرة تقع في اساس الاختناق الاجتماعي والاحتقان السياسي، جاءت “اسرائيل” تمد لها مشروعين ضخمين: الاول بقيمة بضعة ملايين من الدولارات والثاني بقيمة مليار وربع مليار دولار. واذا كان الاتفاق الاول قد وقع وانتهى الامر فإن الثاني يظل عصاة وجزرة بيد الحكومة “الاسرائيلية”، تضمن به عدم الشطط في السياسة الفرنسية، وربما تستعمله في التأثير على المعركة الرئاسية القادمة.

غير ان ما يهمنا نحن في الموضوع ان كلا المشروعين يهدفان الى تثبيت الامر الواقع بشأن الاحتلال والجدار، وعلى الاخص بشأن القدس. إذ إن دولة الاغتصاب وهي تعمل الآن على الافادة من المرحلة التي يعيشها العالم والعالم العربي بشكل خاص لتثبيت واقع الاقتطاع والضم في الارض المحتلة فإنما تضع في اول وسائل هذا التثبيت انشاء شبكة قوية من طرق المواصلات، عابرة من الطرق البرية التقليدية الى شبكة من الترامواي ومن ثم “الاندرغراوند”. اول هذه المشاريع هو شبكة ترامواي يبلغ طولها ثلاثة عشر كيلومترا، تمتد من المستوطنات الى القدس الى حيفا، بحيث تبدأ من “بيسكات زئيف” وتنتهي في حيفا عابرة “فرانش هيل” و”جبل هرتزل”. وتقوم بعزل بعض المناطق الفلسطينية خاصة مخيم شعفاط الذي يضم 38 الف فلسطيني. اما هدفها السياسي الاول فهو تثبيت واقع الجدار وتدعيم الضم في الضفة واطباق السيطرة على القدس في سبيل تحقيق هدف القدس الكبرى. وتحقيقا لحلم تيودور هرتزل بجعل القدس مدينة حديثة، كما اعلن عند انطلاق المشروع عام 2004 وحدد له موعدا لدخول التنفيد كي يكون جاهزا عام 2008.

القضية الخطيرة في عملية تنفيذ هذا المشروع انه سيثبت على الارض مسألة ضم القدس الكبرى، اضافة الى اراض اخرى اقتطعها الجدار، اما من سينفذه فشركتان فرنسيتان تنضويان تحت كونسرتيوم يحمل اسم سيتي باس. الشركتان هما التسون وكونّكس وهما مرتبطتان بثلاث شركات “اسرائيلية” مقابلة. تعهدتا بتسليم الشبكة جاهزة في الموعد المحدد، ومن ثم ينص العقد على ان تحتفظ احدى الشركتين (مع شريكتها “الاسرائيلية” بادارته وتسييره لمدة ثلاثين عاما).

من الجانب السباسي يعتبر هذا المشروع بالغ الخطورة خاصة فيما يخص القدس لأنه مساهمة رهيبة فيما نسميه إرساء الأمر الواقع على الارض الفلسطينية. كما انه من جانب آخر ينشىء تشابكا فعليا في المصالح بين دولة عضو في مجلس الأمن وأساسية في السياسة الدولية ودولة الاحتلال. خاصة وأن الفرنسيين سينفدونه وعينهم على المشروع الآخر الذي يلوح لهم به شايلوك، وهو شبكة موصلات تشمل كل الارض المحتلة وتبلغ كلفتها ما يزيد على المليار دولار.

ومن الجانب القانوني لا يمثل هذا القانون خرقا للقوانين والقرارات الدولية من قبل “اسرائيل” فحسب، وانما من قبل الحكومة الفرنسية نفسها. فقرار مجلس الامن رقم 465 لعام 1980 ينص على انه لا يجوز للدول ان تقدم اية مساعدة يمكن ان تستعمل في تنفيذ سياسة ضم الارض المحتلة، ومثله قرارات محكمة العدل الدولية. وبما ان الحكومة الفرنسية تعرف جيدا ذلك فقد ادعت ان لا سلطة لها على القطاع الخاص غير ان الحقيقة ان الدولة تملك 12في المائة من الشركتين المذكورتين، وهي بذلك المساهم الاول في رأسمالهما، اضافة الى ان رئيس الوزراء السابق رافارين قد تباهى في احد خطبه، خلال زيارته ل”إسرائيل” بهذا المشروع الذي يجسد التعاون بين باريس وتل ابيب، وان السفير الفرنسي في “اسرائيل” جيرار ارو قد حضر مراسيم توقيع الاتفاقية في مكتب شارون نفسه في 17 يوليو/تموز الفائت.

خطاب رافارين المذكور يثبت ان فرنسا لم تسكت عن الاتفاقيتين الا وعينها على الاتفاقية الاخرى الكبيرة، اتفاقية المليار، وعلى مشروع اخر هو مشروع فيوليا في عسقلان المتعلق بتحلية مياه الشرب.

اما ردات الفعل العربية، فشبه غائبة: محمود عباس أثار الأمر مع الرئيس الفرنسي ولكن من دون فائدة، وناصر القدوة عبر عن قلقه، وسائر العرب يغطون في نوم عميق لا يعكره القلق، لأنهم لو أرادوا لاستطاعوا مد الجزرة والعصاة الى فرنسا والى اية جهة اخرى تقدم على ما اقدمت عليه. لذلك علق مدير الكونسرتيوم بأن الاحتجاجات التي نظمها بعض الاوروبيين ضد المشروع لن تكون اكثر من زوبعة في فنجان، لا تلبث ان تنسى. وفي هذا الوقت يفرك المسؤولون اليهود ايديهم لنجاح الصفقة المزدوجة: شراء موقف فرنسي، وتطبيق مقولة بيسمارك: لست انا من وحد المانيا بل طرق المواصلات.