مع تنامي وعي الشعوب العربية لذاتها وتنامي رغبتها بالانفصال عن الخلافة العثمانية في المشرق العربي تأثرا ‏بتنامي النزوع القومية وتشكل الدول قبل عدة قرون في أوروبا, وبتشجيع من تلك الدول الأوروبية التي وضعت ‏حضارة ( الرجل المريض) على أولوياتها بالتقاسم فيما بينها بعد تفكيكها, تنامت الحركات الانفصالية عن السلطنة ‏العثمانية التي ابتلعت المنطقة وهيمنت عليها بسهولة بالغة طيلة أربعة قرون تحت الرابطة الدينية الإسلامية ـ ‏التي كانت المورد الأساسي لثقافة شعوبنا ـ , تنامت الحركات بنزوع قومي حظي بقوة تنافسية مع الرابطة ‏الدينية, معززة بالآمال الموعودة بدعم الدول الغربية بالمساعدة بتشكيل وقيام الدولة العربية على الأرض المحررة ‏من الهيمنة العثمانية . ‏

إلا أنه بعد طرد العثمانيين حلّت الجيوش الدول الغربية ،وفوجئت الشعوب العربية باتفاقية ( سايكس – بيكو ) ‏التقسيمية للدولة العربية الكبيرة المأمولة في المشرق العربي إلى مجموعة دول متقاسمة بين هيمنة الفرنسيين و ‏الانكليز . ‏ و بالرغم من إنشاء المستعمر للدولة الحديثة المشابهة لدوله في كل ( قطر) من الأقطار ليدير مصالحه وفق ‏نموذجها, و التي ـ أي نموذج الدولة الحديثة ـ تعرّفت عليها الشعوب العربية لأول مرة في تاريخهم, تم ‏تعاطيهم الإيجابي مع هذا النموذج الحديث و مع الديمقراطية و الحريات و القوانين الحديثة و صندوق الاقتراع و ‏الأحزاب ).. إلا أن رفضهم للمستعمر أولاً و للحدود التقسيّمية التي صنعها المستعمرين والتي ارتبط وجودها و ‏حدوثها به ثانياً بقي راسخاً حتى بعد أن رحل المستعمرين ، بالرغم من أن تلك الدول أضحت حقيقة واقعة ذات ‏سيادة وعلم و دساتير و مقام في الهيئات الدولية المحدثة بعد الحرب الكونية الثانية . ‏ لم يدم نموذج الدول الحديثة طويلاً بعد رحيل المستعمرين كي يتاح ترسيخ واقعيّة الأوطان الجديدة في الذهنية ‏العربية, كما لم يتاح للبنى الاجتماعية – الاقتصادية الجديدة الوليدة حديثاً( أي البرجوازية الوطنية الوليدة, و توزيع ‏الأرض و صك سندات الملكية للأرض ) بالتشكّل و تشكيل حواملها الاجتماعية القوية القادرة عن الدفاع عن هذا ‏المعطى الحضاري الأرقى ( نموذج الدول الحديثة ) ، فانهارت تلك الدول عند أول تبدي الأزمات الجديدة و ‏الاحتقانات المجتمعية من جهة ، و الاستقطاب الدولية الجديدة و تنافسها على المنطقة من جهة ثانية , و الذي ‏أودى تنافسها المسعور لمصالحها أن تدعم الانقلابات العسكرية حيثما يتاح لها ذلك ، و تحطيم نموذج الدولة ‏الحضاري.

كان الخطوة في تلك الأنقلابات العسكرية للرموز الفلاحية في الجيوش العربية .تلك الرموز الفلاحية ‏المرتبطة أو المتقاطعة مع الأحزاب والحركات الفلاحية التي تبنت الشعارات القومية ـ المقلوبة على رأسها أيضا ‏ـ الرافضة للأوطان الجديدة, و التي وجدت مؤسسة العنف هي الطريق الأقصر للهيمنة على السلطة تعبيراً عن ‏الأزمة المحتقنة و المتكثفة في الريف ( بين الفلاحين و حركاتها المتأثرة بتاريخ حركات التحرر العالمية حينها و ‏ثورة أكتوبر, و بين طبقة ملاك الأراضي المتحالفة مع عدوها التاريخي ـ البرجوازية الوطنية ـ الضعيف و ‏العاجز عن تحطيم نمط الإنتاج الإقطاعي و التمدد إلى الريف و حل مشكلته ), كما وجدت تلك الموجة الريفيّة ‏عناصر قوتّها بعدما شكلت هزيمة / 1948/ هزيمة للمشروع اللبرالي و نموذج دولته و حضور العدو الجديد ‏الاستيطاني الغاصب و الطامع بالتوسع مهدداً الوجود و الآمال و المشاريع ، و بات يحظى بالأولوية على كل ‏شيء لدى الشعوب و النخب و السلطة السياسية الشمولية الجديدة وبات شعار (كل شيء من أجل المعركة) مسوغا ‏للجميع. فتمتعت السلطات الشمولية بحامل اجتماعي شمولي أيضاً و بمشروعية شعبية فريدة ، خاصةً أنها طرحت ‏مفهوماً جديدا ( للقوة) التي ستواجه به العدو الإسرائيلي المدعوم من الدول الرأسمالية الغربية( مقلوباً على رأسه) ‏متناسباً مع جذور الثقافة البدوية المكونة لوعي شعوبنا . ‏

فعوضاً عن مفهوم ( القوة ) الذي نادي به الرواد الأوائل لتجاوز هوة التخلف بيننا و بين الغرب المتطور ، و ‏القائم على تقليد الغرب بعلومه ، و استحضار صناعته ، و نموذج دولته الحديثة ، و التنمية البشرية و الاقتصادية, ‏قام العسكر بقلب المفهوم (القوة) إلى قوة الجيوش و مؤسسات العنف و الأسلحة و التحالفات الدولية المؤازرة ‏لمشروع تحرير الأرض العربية المغتصبة, و عليه بات ( كل شيء للمعركة ) الشعار المهيمن في السياسة و ‏الثقافة و الاقتصاد من أجل تحقيق النصر المشّابه لنصر الجيش الأحمر القادم من بلد متخلف ـ مشابه لتخلفنا ـ ‏على الغرب ذاته الداعم لعدونا الجديد , والجيش القادم أيضا من (الشرق) و ما يحمل هذا الشرق من رمزيّة عندنا ‏خاصة عندما أقام ذاك الجيش الأحمر بعد انتصاره إمبراطورية عظمى / بسرعة خارقة / تدغدغ تاريخية ‏إمبراطورية العرب المسلمين السلفة المستكينة في الذاكرة و الوعي . ‏ هذا المشروع ( التحريري) عندنا و هذا المسار أنتج هزائم متكررة و متعددة و لم تتمكن الشعوب و النخب من ‏الخروج من أسر هذا المشروع, كما لم تجرؤ على الإقرار بالهزيمة و البحث عن جذور الأسباب ، و إعادة إنتاج ‏مشاريع فكرية و سياسية جديدة ، فاستكانت إلى فكرة وجود العدو المدعوم من الدول الأقوى ، و تعليق كل الأمور ‏و المشكلات و الأسباب الداخلية عليه ، ليعفي العقل العربي نفسه من الهزيمة و من جرأة النقد و المراجعة ، كل ‏ذلك تزامن مع تنامي قوة الديكتاتوريات و تشّكل مصالح هائلة للطبقة الحاكمة وبالوقت ذاته فشل مشاريع التنمية ‏واجتثاث البرجوازية الوطنية وخسارة دورها,و تحويل نشاط الطبقة المالكة للثروة إلى النشاط الهامشي الفوق ‏قانوني ( المافيوي بالتشارك مع طبقات السلطة ) ، و عبر أربعة عقود من الاحتكار السياسي و الثقافي و ‏الإعلامي و الاقتصادي, و حالة الانعطاف وتحويل قوة الجيوش و مؤسسات القمع لتقمع شعوبها و ترهبها بالحديد ‏و النار . باتت السلطة الديكتاتورية وحدها المسئولة عن الوطنية السورية، و تمر( المواطنة) السورية عبر معبرها ‏وحدها, ومن يعارضها فهو ليس وطنياً و(خائناً ) و ليس سورياً، و احتكرت العلم السوري و رمزيته وحدها , و ‏احتلت وحدها أيضا حلّ مشكلة احتلال الجولان وتحريره.

‏ و مع النهب و الهدر و الإنفاق على مؤسسات العنف توقفت المشاريع بموازاة تزايد ارتفاع السكان, تضخم جيش ‏العاطلين عن العمل من الشباب و الأجيال الجديدة التي خضعت منذ طفولتها لشحن الخطاب السلطوي و حصر ‏الانتماء السوري بها وحدها . لدرجة انه اختصر الوطن بالحزب الحاكم و خطابه. ومن ثم اختصر الوطن بالقائد ‏التاريخي فبات الوطن السوري مختصراً بالحاكم ، كل ذلك ترافق مع الخطب السياسية والفكرية القومية القافزة ‏من فوق حدود الوطن (القطر) الجاهزية للتضحية به من أجل مشروع وحدوي وخطاب اليسار الفوق قومي ‏وخطاب التيارات الإسلامية هي الأخرى التي لا ترضي بديلا عن دولة الإسلام والمسلمين أينما وصلت حوافر ‏خيول المسلمين. ‏ أمام هذه الموجه باتت سورية بدون أبناءها ، باتت وحدها مشرّعة للرياح الدولية و لتحّكم النظام الديكتاتوري. ‏ويتجلى ذلك في حضور أغلب الانتماءات (الفوق والتحت) وطنية والعصبيات حسب أولويات وتراتبيات محددة ‏والوحيد الخافت هو الانتماء إلى سورية وهي في الدرك الأخير من سلم تلك التراتبيات . ‏ وأمام هذه اللوحة الخطرة على سورية وأبنائها ,لابد من جهود هائلة تطلب من النخب جميعها لاستنهاض العصبية ‏السورية على حساب جميع العصبيات الأخرى وبغير ذلك ستكون سورية في مهب الريح وأبناءها بلا وطن .