نصر شمالي

يستدعي الموت المريب للرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش في سجنه الغربي وقفة قصيرة للتأمل في حال يوغوسلافيا، فبعد انهيار الكتلة السوفييتية، وحتى الأمس القريب، شكلت يوغوسلافيا الاتحادية الكتلة الاقتصادية الكبيرة، والأخيرة، التي لم يلتهمها الرأسمال الغربي الربوي في منطقة الجنوب الأوسط من أوروبا، فالمشروعات المملوكة اجتماعياً، والإدارة الذاتية العمالية لتلك المشروعات التي دشّنها الرئيس تيتو منذ ما قبل حوالي نصف قرن كانت لا تزال هي السائدة.

لقد كانت صناعات البترول، والمناجم، والسيارات، والتبغ ملكية اجتماعية في يوغوسلافيا. كانت 75% من الصناعات اليوغوسلافية في نطاق القطاع العام، أو مملوكة اجتماعياً. وعندما هبّت رياح الخصخصة والعولمة على يوغوسلافيا، واشتّد الحصار عليها، وانطلقت عمليات تغذية الفتن بين أقوامها والهدم في أسس اتحادها، اشترط قانون الخصخصة اليوغسلافي، بينما هو يترنحّ أمام الرياح الغربية العاتية، أن حصة عمال الشركات من بيعها يجب أن لا تقل عن 60%. لقد حدث هذا في عام 1997، وفي عام 1999 كانت أوضاع يوغسلافيا تتردّى، وكانت حكومة بلغراد تعتمد القسوة الرهيبة في عملية إخضاع إقليم كوسوفو، غير أن رئيس وزراء بريطانيا توني بلير لم يأبه لما يحدث في كوسوفو، وانهال بالنقد والتوبيخ على الحكومة اليوغوسلافية بسبب فشلها في مباشرة برنامج "الإصلاح الاقتصادي"! كان ذلك أثناء قمة دافوس التي انعقدت في ذلك العام، وكانت حكومة بلغراد تتلكأ في بيع أصول دولتها وفي تحويل إدارة اقتصادها لخدمة مصالح الشركات المتعدّدة الجنسيات، بل هي لم تكن قد انخرطت بعد عضواً في صندوق النقد الدولي، أو البنك الدولي، أو منظمة التجارة العالمية، أو البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، وغيرها من المؤسسات الربوية مصاصة الدماء!
قصف المصانع وانصياع الحكومة!

لقد بدأ قصف يوغسلافيا بأطنان القنابل بعد امتناع البعثة الصربية عن التوقيع على اتفاقية بصدد اقتصاد إقليم كوسوفو، التي تضمنت إقامة اقتصاد سوق حرّة وخصخصة جميع الأصول المملوكة من قبل الدولة، وفي عمليات القصف التي شنّها حلف الناتو بقيادة واشنطن ضدّ يوغوسلافيا كانت الشركات المملوكة من قبل الدولة والمجتمع هي الأهداف الرئيسة، وليس المواقع العسكرية! ففي حين دمّر القصف 14 دبابة، فإنه دمّر بالمقابل 372 منشأة صناعية عامة، منها مصنع سيارات زاستافا في كراجويفتش، مخلفاً مئات الآلاف من العمال العاطلين عن العمل، بل تجدر الإشارة إلى أنه لم يقصف مصنع واحد من المصانع الأجنبية أو من مصانع القطاع الخاص اليوغسلافي!
بعد اعتقال الرئيس سلوبودان ميلوسيفيتش وتحويله إلى محكمة جرائم الحرب، حيث يحاكمه مجرمو حرب حقيقيون، حصلت الولايات المتحدة وحليفاتها على حكومة سريعة الاستجابة، وبدأت بلغراد مسار الإصلاحات الاقتصادية التي انتظرها الأميركيون وحلفاؤهم طويلاً، فكان استئناف العمل بقانون عام 1997 المتعلق بالخصخصة، وبالسماح ببيع 70% من الشركات الوطنية التي يملكها المجتمع للمستثمرين الأجانب، والسماح للعمال بالاحتفاظ بما لا يتعدّى 15% من الأسهم، وبالطبع سمح لهم بذلك على مضض ومؤقتاً، ثم بعد ذلك وقعت الحكومة الجديدة مع كهنة النيوليبرالية على اتفاقية تربطها بالبنك الدولي وتجعلها منصاعة لبرامجه التي تقضي فعلياً على الاستقلال المالي للبلاد!

ثروات أقاليم كوسوفو المنهوبة!

كان إقليم كوسوفو هو جائزة الحرب الكبرى الثمينة البّراقة، التي انتظرها الغزاة بلهفة كما شرحت صحيفة نيويورك تايمز، فهذا الإقليم يمتلك ثاني أضخم احتياطات الفحم في أوروبا. إنه يمتلك كميات هائلة من الفحم الحجري والرصاص، والزنك، والذهب، والفضة، والبترول. أما الجوهرة النفيسة فهي مجمع مناجم تريبتشيا الهائل الذي قدّرت قيمته، في عام 1997، بخمسة مليارات دولار. لقد استولى 2900 من جنود الناتو على هذا المجمع بعد الحرب مباشرة، حيث احتلوه بهجوم كاسح عبر غارة مفاجئة، وطردوا عماله وموظفيه ومديريه، مكتفين برميهم بقنابل الغاز والرصاص المطاطي، وليس بالذخيرة الحيّة!

بعد خمس سنوات مضت على اجتياح قوات الناتو بقيادة واشنطن للإقليم، أعلنت وكالة "تروست كوسوفو" بنبرة احتفالية سعيدة عن برنامج قيد التنفيذ لخصخصة أول دفعة كبيرة، حوالي خمسمائة مشروع ضخم من المشاريع المملوكة للدولة والمجتمع، التي تسيطر الوكالة على إدارتها! لقد شمل البرنامج، الذي بدأ تطبيقه عن طريق المزاد العلني، دوراً للطباعة والنشر، ومركزاً تجارياً للتسوق، وبيزنس زراعي، ومصنع للمشروبات، ومجمع فيرونيكلي للتعدين وتشكيل المعادن (النيكل) بطاقته الإنتاجية السنوية البالغة 12000 طن من هذه المادة الثمينة!

لقد عدّلت بعثة الأمم المتحدة في كوسوفو طريقة تملك الأراضي لتجعلها أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب، فسمحت لوكالة "تروست كوسوفو" ببيع عقود إيجار للأراضي مدتها 99 عاماً، مع المشاريع المقامة عليها، مع إمكانية استخدام عقود الإيجار كقروض أو كتأمين، وإمكانية تحويلها إلى مستثمر آخر هو بحكم المالك، الأمر الذي جعل حكومة بلغراد الموالية للغرب تطلق على تلك الإجراءات وصف:" سرقة أراضي الدولة"!

الفارق بين يوغوسلافيا والعراق!

لقد انقضت الشركات الغربية الربوية على الفريسة اليوغوسلافية الممزقة بقابلية نهمة، فهي كانت غنيمة دسمة فعلاً، مكوّنة من المواطنين عموماً والعمال خصوصاً، ومن الموظفين والمدراء، الذين نهبت ممتلكاتهم باسم المجتمع الدولي، والإصلاح الاقتصادي، وحقوق الإنسان، وحق تقرير المصير..الخ! وهي ما كادت تطمئن إلى هلاك الفريسة اليوغوسلافية، مستغلة شكلياً ذرائع لا تخلو من بعض الأساس الأخلاقي، حتى تحوّلت إلى العراق حيث لا تنهض ذرائعها على أي أساس!
غير أن فارقاً حاسماً يميّز بين ما حدث في يوغوسلافيا وما يحدث في العراق، ففي العراق لم ينجحوا بعد خمس سنوات من المحاولات المستميتة في جعل الحرب أهلية، طائفية، عرقية، وإذا كانوا قد نجحوا في تدمير أصول الدولة العراقية فقد أخفقوا في إقامة البدائل واستثمارها، ناهيكم عن أن المقاومة المتصاعدة جعلتهم يصرخون عالياً محذّرين من الإخفاق! إن العراق يعد بهجوم أممي معاكس يساعد على إعادة الاعتبار للإنسان عموماً، وعلى وضع الأمور الدولية في نصابها الصحيح العادل.