مع رحيل الرئيس حافظ الأسد في يونيو/حزيران ٠٠٠٢ ومجيء إدارة الرئيس بوش في أوائل العام ١٠٠٢ وبداية الحرب الأميركية ضد الإرهاب بعد ١١ سبتمبر/أيلول ١٠٠٢ وأخيرا الاحتلال الأميركي للعراق في أبريل/نيسان ٣٠٠٢ دخلت سورية، دورا ومكانة، في دائرة الاستهداف الأمريكية. فبالنسبة لإدارة الرئيس بوش الدور السوري الإقليمي عموما، وفي لبنان تحديدا، لم يعد مقبولا ويعود إلى عالم موروث لم يعد قائما، هو عالم الاستقطاب الثنائي خلال الحرب الباردة، لا يأخذ في اعتباره المستجدات الجديدة على الساحتين الدولية والإقليمية، ممثلة في هيمنة الولايات المتحدة عالميا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في العام ١٩٩١ وحربها ضد الإرهاب بعد١١ سبتمبر/أيلول ووجود قواتها في العراق إقليميا.

فيما مضى كان يمكن الحديث عن ربط ضغوط الولايات المتحدة الأمريكية على الحكم في سورية بحاجتها لتحوير دوره الإقليمي في خدمة مخططاتها، بما في ذلك مقايضة صمتها عن استبداده في الداخل السوري وهيمنته على لبنان، بتنازلات يقدمها في صيغ تعاون صريح وملموس لضمان أمن العراق واستقراره، لكن بعد طي ملف الخلافات الأمريكية - الأوروبية حول العراق، ووحدة موقفيهما من تطبيق القرار ٩٥٥١ ومن تشكيل لجنة دولية للكشف عن منفذي اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأيضا ما نجم عن هذه الجريمة من إعادة رسم مشهد جديد من المواقف والاصطفافات العربية، ومن وحدة الصف اللبناني المعارض وتقدم دوره سياسيا وشعبيا. بعد كل ما سبق تبدو الإدارة الأمريكية أكثر تحررا من بعض أعبائها ومن حاجتها للمقايضة والتفاهم. لقد تغيرت سياسة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط من قوة تحافظ على الوضع القائم إلى عامل تغيير وإصلاح، إذ باتت الإدراة الأمريكية تعتقد بأنّ الحكومات العربية هي سبب النمو في الحركات الإرهابية، وأنّ انعدام الديمقراطية والحرية في هذه البلدان هو سبب امتداد الحركات الأصولية والإرهابية، وأنّ طبيعة هذه الحكومات التعسفية تولد المشاكل لأميركا في المنطقة وحول العالم، كما أنّ حمايتها لها تولد مناخا معاديا لأميركا في العالمين العربي والإسلامي.

وفي الجانب الآخر، تباينت رؤى صناع القرار السياسي في سورية، وخاصة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، حيث ظهر تياران: أولهما، وهو ما يمكن وصفه بالمحافظ، قرأ في المطالب الأمريكية المتوالية لائحة لا تنتهي من المطالب، ومن الصعب الاستجابة لها. فهذه اللائحة غير معروفة كما عبر الرئيس الأسد نفسه في أكثر من مرة، وهي أشبه بطلبات العصا التي لا تتضمن أية جزرة، ولذلك فمن الأفضل قطع الطريق عليها نهائيا والاستجابة بالمراوغة واتباع سياسة الانتظار. وثانيهما، الذي يمكن وصفه بالمتوائم، فيرى ضرورة الاستجابة للمطالب الأميركية لأنّ القادم أخطر، وأنّ سورية لا يمكنها الوقوف في وجه الولايات المتحدة ولو أيدتها جميع الدول العربية وإيران النووية التي ’’ أثلجت صدر الرئيس السوري’’. ولعل هذا التيار هو الذي استطاع إقناع المحقق الدولي برامرتس بتخفيف لهجة تقريره الذي قدمه يوم ٥١ مارس/آذار الماضي حين تم طمأنته على ’’ الوصول إلى الأفراد والمواقع والمعلومات ’’ وإمكانية مقابلة الرئيس بشار الأسد ونائبه فاروق الشرع. ومما لا شك فيه أنّ ثمة نوع من الغطرسة والصلف في تعاطي إدارة الرئيس بوش مع سورية، كما مع غيرها من دول العالم. ولا جدال أنه من حق أية دولة في العالم، وسورية ضمنها بالطبع، الدفاع عن حقوقها ومصالحها ورؤاها في مواجهة محاولات الهيمنة أو الإملاء الأمريكية، لا سيما إذا كانت معطوفة على السياسة الإسرائيلية. ولكنّ أخطاء القيادة السورية التي أوصلت الحال إلى ما هو عليه كانت في معظمها استراتيجية ومميتة، والخطأ الأساس يتعلق بتجاهل سورية التوازن الجديد للقوى الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة.

فطوال الفترة الماضية برزت مشكلة في تعاطي سورية مع السياسة الأمريكية، وفق سياسة إدارة الأزمة، إذ أنّ حكام سورية كانوا يراهنون على الزمن، وعلى المعطيات الناشئة، لتجاوز سياسات إدارة الرئيس بوش أو التملص منها. لكنّ هذا الأمر لم ينجح، على رغم كل الثغرات والورطات التي وقعت فيها الإدارة الأميركية، على أكثر من صعيد، في سياستها الدولية والإقليمية. والمعنى أنّ سياسة إدارة الأزمة أو سياسة حافة الهاوية، التي كانت تعمل سابقا على هذا الصعيد، لم تعد فاعلة تماما، بل أنها عززت من استهداف إدارة الرئيس بوش لسورية. وعطفا على ما تقدم، فإنّ سياسة المقايضة السياسية، التي كانت معتمدة سابقا، لإبقاء سورية خارج معادلات الاستهداف لم تعد مقبولة من الإدارة الأميركية، التي باتت تعتقد أنّ على سورية القيام بما هو مطلوب منها من دون مقابل. ولا شك في أنّ هذا الأمر شكل قلقا كبيرا لأهل النظام السوري، وخلق وضعا جديدا لهم لم يستطيعوا التكيّف معه بالشكل المناسب.