ربما هي مؤامرة القدر على الثقافة السورية, اختار لها فصل التجدد والحياة, الموت أيضاً يحب الربيع, ويختار منه وروده الأروع والأبهج, فقد افتتحه برحيل عبد المعين الملوحي, ليتبعه محمد الماغوط, ومن ثم عبد السلام العجيلي, وأخيرا الفنان وليد قارصلي, ونيسان لم ينته بعد.

رحل قارصلي بصمت وهدوء, فلم نشعر إلا ونبأ وفاته يأتي على حين غرة ليختطف ما بقي من ابتساماته على جدران دمشق, زارعاً مكانها الحزن العميق على رحيل كان موجعاً, لنفتقد معه الابتسامة الدائمة والحب الذي يفيض ويملأ فضاءنا الإلكتروني, وتلك الشمس التي تشرق على حكمته وتغرب على كلمته الطيبة.

لم يكن إنساناً أو فناناً عادياً, كان من الاستثناءات النادرة في حياتنا الثقافية, عرفناه فناناً من خلال معارضه, وإنساناً يفيض بالحيوية والنشاط أثناء إداراته لمنتدى السيريانز3 , الذي يعتبر من أوائل المنتديات السورية الالكترونية, وقد استقطب أكثر من 300 سوري موزعين ما بين الداخل والمغتربات, غالبيتهم من المثقفين والإعلاميين والفنانين. على مدى ثلاث سنوات أدار قارصلي المنتدى بثبات ورباطة جأش يحسد عليها, خصوصا حين يكون موضوع النقاش سياسياً, يتصدى فيها للقضايا الشائكة في الوضع الداخلي أو الخارجي, وما يتصل بالاحتلال والمقاومة والعلاقة مع لبنان. كان الجدال يتصاعد إلى حد التخوين وتبادل الشتائم والسباب, قبل أن تعود المياه الى مجاريها بتدخل من «وليدوف» حسب لقبه السيريانزي مستخدماً لغة «الترويق» والممازحة العذبة, دون إغفال توجيه ملاحظة لهذا وتأنيب لذاك, من مستلزمات إزالة التشنج ودرء الخصام, وخصوصاً أن السيريانز تحول من الحوار الافتراضي على الشبكة إلى الحوار الواقعي والمباشر, وكان الأنسب للقائهم وتجمعهم بين فترة وأخرى بيت «ابي هادي» حيث أمضى حياته مستلقياً على جنبه, يرسم ويؤلف الموسيقى, ويكتب ويتجول في الانترنت.

لكن من يعرف وليد في الانترنت لن يشك لحظة في حقيقة عالمه المتخيل, عندما يتحدث عن الطبخ والنفخ, وتجهيز لوازم الذهاب في رحلة إلى احدى المدن السورية, فيحكي عن تحضيرات الأعضاء ويصف طريق الذهاب والإياب, وهو رابض في مكانه يقاوم موات الجسد بحيوية العقل والتفكير العميق, فمعه تكتسب الحياة نكهة لذيذة, لا مكان فيها إلا للتفاؤل والفرح, ومن دخل بيته مثقلاً بالتشاؤم والهموم والإحباط لا يمكنه إلا إلقاءها في النفايات بمجرد وقوفه على عتبة غرفته, كانت تجربته في التغلب على تخاذل الجسد, تصدمنا وتجعلنا نتغلب على تفاهة مشكلاتنا اليومية, وقنوطنا غير المبرر, إذ نراه يستلقي بيدراً هائلاً من الأمل, لا يعطله العجز, يفتح الباب بضغطة زر الى جوار السرير, ويرد على الهاتف المعلق بجانب رأسه, ويرسم على لوحة تتموضع بمتناول يديه, إلى جانب الكومبيوتر؛ فضاؤه الواسع الذي جذبنا إليه, ودخلنا عبره الى حياته فتعرفنا إليه والى زوجته الوفية الرقيقة «إليكا» التي كانت تستقبل محبيه «السيريانزيين» بحرارة, وترشدهم بكلماتها العربية المكسرة بعض الشيء إلى مكان الكؤوس, وأنواع الشراب المتوافر في الثلاجة, والقهوة والشاي قبل أن تنصرف لتتركهم يعدون ضيافتهم بأنفسهم وإلى النقاش الحر في شؤونهم العامة والخاصة. مع أريحية استقباله, تفوح رائحة الحب, ومعها يحل الربيع متدفقاً من لوحات مرت عليها ريشته المغموسة بذاكرة المدينة, فتحضر الورود ودمشق القديمة والموسيقى, قبل أن يحط الجدال رحاله ويعلو صوت معركة حامية الوطيس, تبدأ في الصالون وتمتد إلى المطبخ الساحة الخاصة بالمدخنين.

رحل «أبو هادي» ولم نعد نمني النفس بنسمة صيف تداعبنا من نشرته الالكترونية «الغراب», تلك التي كانت تطل بين فترة وأخرى تحت تعريف جديد, فمرة هي «نشرة تصدر على غفلة ولا يشتريها أحد», ومرة «نشرة تنبع أهميتها من أهمية قرائها». هذه المرة لن تأتي لأن كاتبها قدم استقالته من دنيانا, ليمضي إلى دنياه, بعد عمر قضى جله متكئاً على ساعده, منذ تعرض لحادث مؤسف أثناء دراسته في الاتحاد السوفياتي السابق في الستينيات, كان في ميعة الشباب وسيماً متوهجاً بالحياة والأمل, حين أصابه شلل نصفي أقعده عن المشي, من دون أن يتمكن من روحه القوية المتعشقة بالحياة, فأقام عشرات المعارض, وألف الألحان والأغاني والموسيقى التصويرية لأعمالٍ مسرحية, متغلباً بمساعدة زوجته وأهله وأصدقائه المقربين على وضعه الصحي وعلى حاجته كفنان الى الحركة والتواصل مع الطبيعة.

زرع وليد من حولنا أشجاراً عارية, لم تكن يابسة, بل هي كما قال عنها تعيد تمثيل لحظة حرجة لما قبل انبثاق الأوراق أو الأزهار, لحظة ما قبل الغروب, أو المعجزة التي تحدث كل اليوم قبل بزوغ الشمس, أو لحظة ما قبل المطر. لحظة سديمية تشبه شعورنا لحظة التفكير برحيله, وبما كتبه في رثاء زميله الفنان التشكيلي مصطفى الحلاج: «كنت اشتكي في الفترة الأخيرة من غزارة ذلك السيل الجارف ورغبتي في التعبير بالكلمات لا باللوحات عن مئات القضايا التي كانت تقلقني... الآن اشعر بخواء, ولا أرى قاعاًً لهذه الهوة الجشعة... لا أريد الحديث عن أي موت ­ وهذا الموت أيضاً­ قد تكون الكلمات هي كلماتي وهي هلامية وقاسية في نفس الوقت... أجدني غاضبا أكثر مني حزينا... تقبلت الموت ولكن لن يمنعني أحد من الحنق عليه».