لمس الوسط السياسي اللبناني في الاشهر المنصرمة اكثر من غيره من الاوساط العربية المراقبة درجة من التماسك في العلاقات المصرية السعودية مع النظام السياسي في سوريا ما كان هذا الوسط، او معظمه، يتوقعها. فقد اصبح من المسلّم به ان القيادتين السعودية والمصرية، وعلى اعلى مستوى، تدخلت في اوائل هذا العام 2006 وبشكل شبه علني لتضع حدا لمراهنة تيار "الاكثرية البرلمانية" في البرلمان الحالي، القوة التي تمسك الحكومة اللبنانية منذ ما بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005، مراهنة هذا التيار على ما كان يظنه في اقل تقدير انتكاسة لا سابق لها بين الرياض والقاهرة مع العاصمة الثالثة التي كانت تشكل معهم المحور العربي الاهم لسنوات طويلة بعد 1991 تاريخ الانسحاب الهزيمة لقوات صدام حسين من الكويت.

لقد تبين لتيار "الاكثرية البرلمانية" وتحديدا لكتلتي سعد رفيق الحريري ووليد جنبلاط ان ما سمي "المبادرة العربية" التي قامت على اساس عرض مقترحات معلنة وغير معلنة لتحسين او تجميد تدهور العلاقات اللبنانية السورية هي حقيقة فعلية تعبّر عن سقف سميك لمدى امكانية مراهنة اخصام النظام السوري في لبنان على المحور المصري السعودي بل تعبر عن استمرار هذا المحور المصري السعودي السوري بصورة ملموسة. لان "الرسالة" غير المكتوبة التي حملتها "المبادرة العربية" الى الحريري جنبلاط كانت ان على السياسيين اللبنانيين ان يكتفوا بالانجاز الذي حققوه مع الانسحاب العسكري السوري لانه انجاز كاف وكبير، وعليهم ان يفهموا ان شعار اسقاط النظام السوري هو شأن اكبر منهم (اي من السياسيين اللبنانيين) ولا طاقة لهم عليه، وانه امر يطال مباشرة مصير النظامين السعودي والمصري ولذلك عليهم ان لا يطرحوه.

هكذا اضطر سعد الحريري الى "الاعتذار" بعدما بدا انه رفض "المبادرة العربية" التي صاغها الامير سعود الفيصل في باريس في احدى ليالي شتائها البارد وبعد استدعاء سفيره في بيروت على عجل فغادرها ليلا ووصلها فجرا.

كانت تلك الطريقة التي فهم بها الغاضبون في بيروت ان المحور السعودي المصري السوري لا زال موجودا، وان "السقف" الذي يستطيعون ان يتحركوا عبره ليس الاصطدام بسوريا (حتى بطلب اميركي او فرنسي) وانما هو اخذ مسافة سلبية ما عن "الامر الواقع" الذي يفرضه الحصان الذهبي المتبقي لايران وسوريا في لبنان وهو "حزب الله".

هكذا فهم رئيس الحكومة اللبنانية "الرسالتين" المصرية والسعودية فذهب الى الخرطوم ليقوم بما قام به من طرح لاعتراضه ضد صيغة "حزب الله" لـ"المقاومة خارج الدولة اللبنانية" معتقدا انه يكفي ان يستند لنجاحه في الطرح على الدعم السعودي المصري البعيد والذي ينظر الى الموضوع من زاويته الايرانية لا السورية... فاذا به اي السنيورة يتعثر في ادائه هناك لاعتبارات لم يحسب حسابها تماما فيتيح لاصدقاء سوريا وايران داخل القمة العربية وبغياب الرئيس المصري والملك السعودي ان يسجلوا للمحور الايراني السوري نقاطا ثمينة لصالحه، انعكست لاحقا على الوضع الداخلي اللبناني فاستدعت، ربما، "مبادرة" اميركية عاجلة لدعم موقع رئيس الحكومة عبر استقباله الرفيع المستوى في واشنطن، بما يحد من تدهور موقع "الاكثرية البرلمانية" اللبنانية.

نحن اذن امام محورين اقليميين ظهرا او عادا الى الظهور في المنطقة بعد طول "انكفائهما" بعد 11 ايلول 2001 وبصورة خاصة بعد سقوط بغداد 9 نيسان 2003.

المحور الاول هو المحور السعودي المصري السوري والمحور الآخر المقابل هو المحور الايراني السوري.

هذه ليست صياغة طريفة لاحد وجوه الصراع في المنطقة. انها حقيقة معقدة من حقائق المنطقة وصراعاتها نفسها. فالنظام السوري عاد يقف في المحورين معا. انه على علاقة جادة جدا بالعاصمتين اللتين ورث الرئيس بشار الاسد عن والده الرئيس حافظ الاسد "تقاليد" التنسيق الوثيق معهما وهما الرياض والقاهرة. فالنظامان السعودي والمصري يعتبران ان وضع المنطقة لم يعد يحتمل سقوط اي رئيس عربي آخر بعد صدام حسين بالقوة ولهذا يعتبران مصير النظام السوري مرتبطا بأمن نظاميهما مباشرة.

والنظام السوري في الوقت نفسه بات مرتبطا اكثر من اي وقت مضى بالحلف الراسخ الذي اقامه والده مع ايران. الفارق عن ايام الوالد هو فارق الظروف: لقد كان الرئيس حافظ الاسد يقتسم فوائد الحلف مع طهران عبر قيادته له في لبنان والصراع مع اسرائيل. اما اليوم... فقد ادى سقوط بغداد ثم قيام "النظام العالمي" ممثلا بواشنطن وباريس باخراج الجيش السوري من لبنان، الى جعل هذا الحلف بشكل عام تحت القيادة الايرانية التي تطل بمشروعها النووي، ثم بنوع استفادتها المثيرة من التغييرين في افغانستان وخصوصا العراق، كقوة اقليمية رئيسية صاعدة، يدعمها في ذلك فائض مستجد من "البترو دولار" اصبح في يد الدولة الايرانية التي يسيطر عليها رجال الدين.

للسعوديين ووراءهم الخليجيون العرب وتدعمهم مصر مخاوف عميقة من هذا الصعود الايراني تلتقي مع السياسة الاميركية، خصوصا بعدما قررت الادارة الاميركية والاتحاد الاوروبي رفع مستوى الصعود الايراني الى رتبة استراتيجية.

المعقد جدا والمثير جدا في آن معا ان المحور السعودي المصري السوري يخوض معركته مع المشروع الاميركي في العراق. ومعه الاردن بصورة من الصور. ثلاثة هم أقرب أصدقاء أميركا في العالم العربي "يقاتلونها" بشكل غير رسمي في العراق، ولا يتركون رسميا اي فرصة لممانعتها المعلنة لا يستفيدون منها حتى لو كان الثلاثة معا الانظمة السعودية المصرية الاردنية قدموا بلا أدنى شك خدمات لوجستية للأميركيين قبل احتلال العراق وخلاله. هذه ايضا احدى حقائق المنطقة المعقدة التي لعبت دورا مهما في "الشرشحة" التي يتعرض لها المشروع الاميركي في العراق بصفته مشروعا للتغيير الديموقراطي.

النظام السوري في قلب المعركة العراقية. والنظام السوري حليف ايران الثابت في قلب المواجهة مع الولايات المتحدة. هذه مساحة مشتركة بين المحورين الاول والثاني. ولكن النظام السوري عضو في المحور المصري السعودي الذي يتناكف مع ايران ويأخذ مسافة عنها، بل يحضر لأخذ المزيد من المسافة عنها.

هكذا يرتسم في ظروف مختلفة "اطار" لدور ما سوري "وسيط" بين السعودية ومصر من جهة وبين ايران من جهة أخرى. دور يذكّر بمعادلة "الوساطة" التي أقامها والده خلال الحرب العراقية الايرانية في الثمانينات. لكن لا استعادة "حرفية" للدور. اذ يومها كان النظام السوري مقبولا بل مطلوبا في واشنطن. اما اليوم فالامر مختلف.

كيف ستتطور الامور بالنسبة الى دمشق الموجودة في آن معا في محويرن، بل في حلفين متنافسين؟
لا شك ان استمرار المأزق الاميركي في العراق، أصبح حاليا المصدر الرئيسي لهامش حركة النظام السوري الاقليمية، وكل تصاعد في الوزن الايراني المواجه لأميركا (مثل انتخاب أحمدي نجاد للرئاسة الايرانية) يقوّي القيادة السورية في مواجهتها مع واشنطن. وكل تهديد للنظامين السعودي والمصري يدعم فكرة الاستقرار التي باتت تخدم النظام السوري.

ولنتذكر ان الحالة العراقية، سواء فشل المشروع الاميركي أم نجح، لن تحمل معها الا "التهديد": وحدة العراق أم تفككه... في "الحالة الثورية" التي افتتحها الرئيس بوش والباقية في المنطقة أيا يكن مصير مشروعه.