كتبت جولي فلنت توجز الوضع في دارفور: «دارفور الآن في السنة الرابعة من التمرد. عدة مئات آلاف المدنيين العزّل موتى، أكثريتهم الساحقة قتلتهم القوات الحكومية وحلفاؤها الجنجاويد بأشد الطرق إرعاباً. وهناك مليونان آخران هُجرّا وأكثر من 220 الفاً فرّوا عبر الحدود الى تشاد. وقد أُخلّ بوقف نظري لإطلاق النار لا يساوي قيمة الورق الذي كتب عليه (...) لقد نُزعت ذات المجتمع الدارفوري. قوّات منظمة الوحدة الافريقيّة في دارفور قليلة التجهيز، ومحادثات السلام التي ترعاها منظمة الوحدة في العاصمة النيجيرية أبوجا لا تحظى إلا بجزء صغير من الموارد، ومن الاهتمام الدولي مما حظيت به محادثات نايفاشا للتفاوض حول انهاء الحرب الأهليّة المديدة في جنوب السودان».

وضع مأسويّ كهذا ينطوي على ما يكفي من أسباب وحوافز للتدخل الدوليّ في دارفور، أميركياً كان أو غير أميركي، خصوصاً ان حكومة الخرطوم لم تترك فرصة للاشتباه: فقد حالت دون زيارة جان ايغلند التفقّدية على رأس وفد انساني تابع للأمم المتحدة، فيما الأخيرة تفكّر، بتعثّر مألوف فيها، في إمكان الحلول محل القوات الافريقية. لا بل أقدمت الخرطوم على طرد مجلس اللاجئين النروجي الذي يتولى تنسيق أعمال الإغاثة لـ100 ألف مهجّر مدني دارفوري يعيشون في معسكر كالما، أكبر معسكرات النزوح هناك.

لكن التدخل الانساني، الذي يضغط من أجله بعض الأصوات في الولايات المتحدة وأوروبا، يستحق وقفة تحاول ان تكون متأنّية. فعل عكس ما يقوله معارضو التدخّل خوفاً من «المشاريع الاستعمارية»، لن يكون التدخل هذا، في حال حصوله، أكثر من انساني. وهو ما يعني انه يستطيع ان يتصدى للمهمة الجليلة التي هي وقف الموت والإبادة والتهجير، إلا انه، للأسف، لن يستطيع وضع حلول سياسيّة تضمن عدم تكرار المأساة.

لقد تساءلت: «نيويورك تايمز» في افتتاحية لها قبل أيّام، بعد استعراضها بعض أوجه المأساة الدارفوريّة: «اين المسلمون الذين نزلوا الى الشوارع احتجاجاً على الرسوم الدانمركيّة؟ وأين القادة الأفارقة الذين طالبوا بمقاطعة جنوب افريقيا؟». وهو تساؤل يقول لماذا يعجز التدخل الدوليّ عن تجاوز الأفق الانسانيّ الى الأفق السياسيّ. فتصرّف المسلمين والأفارقة غير العابئ بالمأساة، والذي لا يعبأ إلا بما يأتي على يد الغريب الغربي، يرسم الإطار القبلي الذي يحيط بالمشكلة الدارفوريّة. وكيما يُكتب النجاح لحل سياسيّ طويل الأمد، ينبغي ان يكون الممثلون الأساسيون دولاً تتصرّف بوصفها هذا.

ولئن بات سلوك السلطة السودانيّة أكثر انكشافاً من أن يعوز الى وصفه، فإن السلطة التشاديّة، وهي الشريك الآخر في الصراع، تستكمل رسم اللوحة السوداء. ذاك ان رئيسها، إدريس ديبي، الذي كاد يطاح قبل أيام، وسوف «يُنتخب» للمرة الثالثة بعد أيام، جعل بلده، في العام الماضي، أول بلدان العالم فساداً، حسب التصنيف الذي وضعته منظّمة «الشفافيّة الدوليّة» بعد درسها أوضاع 180 بلداً. لكنه، هو الحاكم منذ 1990، تقوم سلطته على قاعدة ضيّقة هي عشيرة زاغهاوا التي ينتمي اليها. ولأن هذه الأخيرة ذات امتدادات قرابيّة في دارفور، ارتبط الصراع على السلطة بين السودان والتشاد وتداخلا: فإذ يدعم ديبي الدارفوريين، يدعم عمر البشير العشائر المناهضة للزاغهاوا، لا سيما عشيرة تاما بزعامة محمد نور. بيد أن القرابة لا تردع الرئيس التشاديّ عن استخدام النازحين الدارفوريين ورقةً في لعبته مع الخرطوم، يهدّد مرّةً بطردهم ويغيّر رأيه مرّة أخرى. لكن إذا ما سقطت حكومة ديبي هذه، بكل الرثاثة وطاقة التدمير مما تنطوي عليه، عاثت فوضى الحرب الأهليّة والنزاعات العشائريّة المفتوحة بالتشاد وغذّت، من ثمّ، ما يماثلها في السودان.

فليطمئنّ، إذاً، القوميّون العرب والاسلاميّون على أنواعهم الى استحالة التدخّل السياسي ومشاريعه نظراً الى فقدان القوى السياسيّة التي يرسو عليها تدخّل كهذا. والضعف، كما يدلّ العراق، قد يكون أشدّ مناعةً من القوّة في سلوكنا طريقنا المستقلّة والمتحرّرة والخاصّة، والمعبّدة، بسبب ذلك كلّه، الى الجحيم.