منذ أيام طالعتنا وكالات الأنباء العالمية بخبر فني مثير للاهتمام يقول, إن إحدى صالات السينما في اليابان ستعرض فيلماً مصحوباً بنسائم مُعَطَّرَة, تتغيَّر رائحتها مع تطوُّر أحداث قصَّة الفيلم وتبدُّل أمزجة الممثلين!

من جهة ثانية, ذَكَرَت هيـئة الإذاعة البريطانيَّة, أن آلات ومعدَّات صُمِّمَت خصِّيصاً لتنشر في أرجاء الصالة سبعة أنواع من العطور أثناء عرض فيلم «ذي نيو وورلد»! وسترافق روائح «الورود» بمختلف أنواعها, كل مشاهد ومواقف «الحب»! وستكون المناظر المؤثِّرة واللقطات المحزنة مصاحبة ومواكَبَة على الدوام بمزيج من روائح «البابونج والزنجبيل والنعنع البرِّي»!!

وبكل سلاسة ورقَّة ونعومة, يضيف هذا الخبر المعطَّر بقوله: إن هذه الخدمة الفنيَّة ­ الحسيَّة المبتكرة, لا تقتصر فقط على صالات السينما, وإنما تتعداها الى المنازل والبيوت وسائر أمكنة الاقامة والسكن, حيث يمكن للأفراد والجماعات أن يضعوا في الآلة المخصَّصة لبثّ ونشر الروائح, كل أصناف العطور التي تستهويهم ويحتاجون إليها وذلك تبعاً لأحوالهم النفسيَّة, مثل رائحة «الاسترخاء» قبل النوم, أو رائحة تنبيه الأعصاب إذا كانوا يحتاجون الى العمل حتى ساعة متقدمة من الليل! وهذا من وجهة نظرنا يؤدي الى القول, إن لكل حالة رائحتها!! وقريباً سنسمع الحكمة «المعطرَّة»: قل لي ماذا تشمّ وكيف؟ أقل لكَ من أنت!

وعطفاً على ما تقدَّم, نودّ القول إن صديقنا ­ الموسوعة الدكتور فاروق سعد, قد كان سبَّاقاً حين كتب منذ سنوات لا تقل عن الخمس, مسرحيةً مستوحاةً من حكاية الفتاة الغجرية «كارمن» المشهورة روائياً وأوبرالياً وسينمائياً... وجاء «جديد» الدكتور فاروق من قدرته على تشكيل وتوليف نصّ مسرحي ايمائي, مغنَّى, مُذاق ومشموم!!! ويُبَيِّن هذا النصّ الجميل كيف تفوح النسمات العَطِرة للممثلين والممثلات وبحسب ظهورهم على المسرح أثناء العرض! وكيف تنتشر الروائح وتمور في أرجاء الصالة, بحيث يكون لكل فئة من المؤدِّين عطرها الخاص بها وطعمها الذي يُميِّزها! وذلك عن طريق تقديم أنواع متعددة من «البونبون» الى الجمهور بنكهاتٍ مختلفة تناسب طبيعة كل موقف وكل مشهد من المشاهد!
في هذا النصّ الإيمائي تشترك الحواس من بصر وسمع وشمّ وتذوُّق, ولا تنقصه سوى حاسة «اللمس» على الرغم من أن إمكانية اشراكها واشتراكها متوافرة وجاهزة, بل ومتحفِّزة لـ«مدّ اليد» في كل لحظة على الممثلين والممثلات فيما لو أرادت الخطة الاخراجية ذلك!!!
وكما نعلم فهناك «ذاكرة للحواس»: بصرية, سمعية, شميَّة, لمسيَّة, تذوقيَّة... وهي على الدوام «حاضرة» عند البشر «المتحضرين».

والذاكرة أيها الإخوة في «النسيان», وبشكل عام, قد خَفَّت وخَجِلَت وتوارت عند اللبنانيين! وتراجَعَت ديناميتها وأَفَلَ وهجها وكادت أن تضمحلَ نهائياً عند «العَرَب» كافة, حيث لم يشفع لبقائها وصمودها كل صباغ «الحنَّة» على اليدين والرجلين, ولا وضع وماكياج «الكحل» على العينين! ولا دق «الوَشَم» على الوجوه والبطون والأقفية!!

لقد فَقَدنا, ومنذ زمن أَلَق الذاكرة, ولم نعد نحلِّل ونتَّعظ ونسترشد ونرعوي, ونتعقَّل, ونهدأ ونفكِّر. لذلك لم نعد «نرى» فظاعة وهمجيَّة المذابح اليوميَّة, ولم نعد «نلمس» ونتلمس أخطار الصهيونية وإسرائيل. ولم نعد «نسمع» سوى الشائعات والمغالطات وطمس الحقائق وتزويرها. ولم نعد «نتذوق» إلاَّ أتفه وأحط وأسفل الكلام والموسيقى والغناء. ولم نعد «نشمّ» لا عن بعد ولا عن قرب روائح المعارك الآتية والدمار الوافد! لقد أصبحنا بلا ذاكرة, بلا حواس, بلا ذوق... بلا رؤية... بلا أخلاق...!