قبل سنة، في السادس والعشرين من نيسان 2005 تحديداً، خرجت القوات السورية من لبنان بضغط اللبنانيين أولاً ورغبة المجتمع الدولي على رأسه الولايات المتحدة وأوروبا ثانياً.
كان لافتاً أن النظام السوري الذي يتحمّل بطريقة أو بأخرى المسؤولية عن اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه على رأسهم النائب باسل فليحان، لم يحاول حتى التفاوض في شأن الانسحاب وتفاصيله. بين ليلة وضحاها، لم يعد وجود لقوات عسكرية سورية في لبنان.

بقيت طبعا عناصر أمنية في حماية هذا الحزب "اللبناني" أو ذاك في هذه المنطقة أو تلك.
كان كافياً مجرد شعور النظام في دمشق بأن الضغوط اللبنانية والعربية والدولية حقيقية، لتنفيذ الانسحاب من دون أسئلة أو أجوبة طاوياً بذلك صفحة في تاريخ العلاقات بين البلدين الشقيقين اللذين يفترض ألا يكون هناك ما يفرّق بينهما... لو كان هناك في دمشق من هو قادر على التفكير في المستقبل بدل البقاء في أسر عقد الماضي وأوهامه.

كان اغتيال رفيق الحريري، العربي الأصيل الذي عمل من أجل خدمة سوريا ولبنان والسوريين واللبنانيين، أفضل تعبير عن عمق الأزمة التي يعيشها النظام السوري. انها أزمة تجعله يستمر في الحلم بالعودة إلى لبنان عسكرياً بدل استغلال خروجه من البلد لمعالجة المشاكل الحقيقية التي تعانيها سوريا والتجرؤ على طرح هذه المشاكل، التي يشكّل الاعتراف بها خطوة أولى لا بدّ منها على طريق البحث عن حلول.
على العكس من ذلك، رفض النظام السوري الاقرار بأنه يمرّ بأزمة عميقة وتابع عملية الهروب إلى أمام التي أوصلته إلى الارتماء في أحضان النظام الإيراني وتحوّله إلى مجرد تابع له غير مدرك أن أي عملية هروب إلى الأمام لا يمكن إلا أن تكون لها نهاية. والدليل إلى ذلك ما حل بالنظام العائلي ـ البعثي لصدام حسين الذي أتقن فنّ الهروب المستمر إلى أمام منذ اليوم الأول لوصول صدام إلى موقع الرئاسة. وقتذاك، تمثلت أول عملية هروب من الواقع بإعدام الرفاق البعثيين بحُجة التآمر على رئيس النظام! وتوالت الأخطاء التي بلغت ذروتها باحتلال الكويت بعد سنتين من انتهاء الحرب الظالمة التي شنّها صدام على إيران.

بعد سنة على الانسحاب السوري من لبنان، لم يعد مجال لاخفاء الواقع وذلك على الرغم من حال العجز التي يعانيها العرب عموماً والتي كان أفضل تعبير عنها رفضهم الوقوف مع لبنان في قمة الخرطوم الأخيرة. في تلك القمة بدت الأنظمة العربية غير قادرة على قول كلمة حق تواجه بها الباطل، غير مدركة أن التهاون مع ممارسات المحور الإيراني ـ السوري في لبنان سيعود بالكوارث على العرب، كل العرب وليس على لبنان وحدَه على غرار ما حصل ويحصل في العراق.

من حسن الحظ أن قوى عربية معينة كانت تعتقد أن في الإمكان استعادة النظام السوري من إيران، باتت تدرك حالياً أن هذا الأمر مستحيل. بدأت هذه القوى تستوعب أن المسألة ليست مقتصرة على السيطرة على لبنان وتغيير اتفاق الطائف بعد التخلص من رفيق الحريري أهم شخصية عربية ودولية في البلد، بل تتجاوز ذلك بكثير. إن المسألة صارت مرتبطة بتغيير شامل على الصعيد الإقليمي يأخذ في الاعتبار وجود قوة إقليمية وحيدة إلى جانب إسرائيل هي إيران، مع فارق أن إيران على العكس من إسرائيل موجودة بأشكال مختلفة في الخليج الغني بمصادر الطاقة. إنها إيران ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وهو احتلال أدى إلى نجاح منقطع النظير للمشروع الإيراني. هل مصادفة أن إيران استطاعت خلال فترة وجيزة ملء الفراغ الذي خلّفه الانسحاب العسكري السوري من لبنان؟ هل مصادفة أيضاً أن تكون إيران استطاعت ملء جانب من الفراغ السياسي الذي نجم عن الانهيار الذي أصاب أشباه السياسيين وأشباه الأحزاب من حلفاء سوريا في لبنان؟ كذلك هل مصادفة أن تتمكن إيران، عبر "حزب الله"، من استغلال الساذج الذي اسمه ميشال عون الذي يتزعم الكتلة المسيحية الأكبر في مجلس النواب اللبناني وتوظيفه في لعبتها الإقليمية؟

بعد سنة من الانسحاب العسكري السوري من لبنان، لا تزال لعبة الهروب إلى أمام التي يمارسها النظام السوري مستمرة، مع فارق أنها صارت مرتبطة ارتباطاً عضوياً بما تقرره طهران. فهم بعض العرب ذلك باكراً وفهمه بعض آخر متأخراً، وهذا يدعو إلى التساؤل بكل صراحة هل يفلت النظام السوري من العقاب الذي يفترض أن يناله جراء المسؤولية التي يتحمّلها عن اغتيال رفيق الحريري؟ الجواب هل مسموح لدولة مثل إيران أن تتحكم بالخليج ومصادر الطاقة فيه؟ ماذا حلّ بصدام حسين عندما اعتقد أن احتلال الكويت مجرد نزهة وانه سيفاوض الأميركيين من موقع قوة بعد سيطرته على نحو عشرين في المئة من مخزون النفط العالمي؟ قد تطول لعبة الهروب إلى أمام، لكن لا بدّ لها من نهاية. من كان يتجرأ قبل اغتيال رفيق الحريري على أن يراوده مجرد حلم بأن الجيش السوري سينسحب في يوم من الأيام من لبنان؟