أمضت أجيال عديدة من السوريين أعمارها وهي تسمع من تلفزيونها خبراً واحداً طوال حياتها، مفاده أن قيادتها تتلقي في الاثنتي عشر ساعة الأولي كل يوم برقيات التأييد والدعم والشكر والامتنان، وتستقبل وتودع في الاثنتي عشر ساعة الأخري من اليوم أشخاصاً مختلفين، لتبحث معهم العلاقات الثنائية، ويؤكدوا معاً علي أهمية تعزيز التضامن العربي، ويشددوا علي حشد كل الطاقات في مواجهة العدو الصهيوني، ويشيدوا بدول المنظومة الاشتراكية وعلي رأسها الاتحاد السوفييتي الصديق.

وكانت الصورة الأثيرة التي يبثها التلفزيون السوري في كل أخباره (للتأكيد لمشاهده بأنه يشاهد شاشة تلفزيون، ولا يسمع إلي اسطوانة معلقة في فونوغراف) شريط صامت مصور للقيادي مع ضيفه وتعابير وجهيهما توحي بالجدية المفرطة، مرفقاً بموسيقا رتيبة تضيف إلي سكونية الشريط المصور أجواء عزائية.

وعندما قررت أعمدة الحكمة السبعة للإعلام السوري مسايرة العصر، كسرت علي أنفها بصلة وأدخلت تطويرات علي خبرها المفضل والوحيد، فسمحت ببث صور للقيادي السوري وضيفه وهما يحركان أيديهما في الهواء للتأكيد علي جديّة اللقاء وخطورة القضايا المطروحة فيه، ومصيريتها بالنسبة للمشاهد السوري الذي كان يجلس أمام شاشة التلفزيون وأمنية حياته قبل أن يتوفاه الله أن يعرف ما يدور في اللقاء، ليعرف كيف ستنعكس هذه اللقاءات الجدية علي مستقبل حياته وحياة أولاده من بعده.

وإمعاناً في مواكبة التطور المذهل للإعلام في العالم تكرمت أعمدة الحكمة السبعة للاعلام السوري فيما بعد بتصوير القيادي وضيفه وهما يرسمان علي شفاههما ابتسامات باهتة وقصيرة للدلالة علي جو الإلفة والمودة التي سادتا أجواء اللقاء، وكانت هذه الابتسامات كافية لجعل مشاهدها ينام مطمئناً علي مصيره ومصير أولاده من بعده.

وتماشياً مع الشفافية الإعلامية اكتشف السوري لأول مرة في حياته المؤتمر الصحفي الذي يقف فيه القيادي السوري إلي جانب ضيفه ليردا علي أسئلة الصحافيين، وعندها شعر المشاهد السوري بفرح غامر وسعادة لا توصف، وحمد ربه وشكره ألف مرة علي نعمه الكبيرة كونه عاش إلي اللحظة التي شاهد فيها هذه المؤتمرات الصحفية، والتي لم تكن في أفضل أوصافها أكثر من حصة في القراءة والحفظ والتسميع من تلك التي تقرر علي تلاميذ المدارس الابتدائية، فقد كان مدراء المؤسسات الإعلامية السورية يوجهون أسئلتهم التي لا تحتمل أكثر من جواب واحد إلي القيادي وضيفه حول صوابية السياسة السورية، وينفض المؤتمر الصحفي بعد جواب القيادي وضيفه علي الأسئلة بنفس الطريقة التي يردد بها تلميذ المدرسة قصيدة أو نشيداً حفظهما عن ظهر قلب، وعلي الرغم من أن الأسئلة كانت تتكرر في كل مؤتمر صحفي، ومن ذات موجهيها من مدراء المؤسسات الاعلامية السورية حصراً، والتي يقرؤونها من نفس القصاصات في كل مؤتمر صحفي، ثم يطوون هذه القصاصات ويحفظونها بعناية في محافظهم بانتظار المؤتمر التالي، علي الرغم من كل ذلك كان السوري من فرط غبطته بدخول وطنه عصر المؤتمرات الصحفية، يترك عمله ليتابع أي مؤتمر صحفي، بل وأحياناً كان يردد في نفسه السؤال الذي سيطرحه أي مدير مؤسسة إعلامية بمجرد رؤية وجهه، ويسبق القيادي والضيف في الاجابة عنه، من قبيل اختبار ذاكرته الحفظية أولاً، واعتزازاً بتقدم وطنه ثانياً.

بهذه الطريقة فهم السوريون الاعلام وتعودوا عليه، وعانوا كثيراً عندما سمعوا أن التلفزيون السوري سيفتتح قناة ثانية، لأنهم خافوا تفضيل قناة علي أخري، وخشيوا ألاّ يعدلوا في مشاهدتهم للقناتين فيقعوا في المحظور ويرتكبوا الاثم، لكن أعمدة الحكمة السبعة للإعلام السوري هدأت من روعهم وطمأنت مخاوفهم باستنساخها للقناة الثانية من القناة الأولي، وهكذا بقي التلفزيون السوري (بقناتيه) تلفزيون القناة الواحدة، إلي حد جعل السوريين بعد إطلاق القناة الثانية يتداولون نكته حول مواطن سوري أراد مشاهدة القناة الثانية، فانتقل إليها ليفاجأ برجا فرزلي (أحد أشهرمذيعي نشرة الأخبار السورية المتجهمين) يشهر بوجهه مسدساً ويطلب منه العودة لمشاهدة القناة الأولي!

لكن التطور المذهل للاعلام في العالم وظهور المحطات الفضائية وشبكة الانترنيت أربك أعمدة الحكمة السبعة للإعلام السوري، فإذا كانوا قد استطاعوا عبر سنوات طويلة التشويش علي وصول بث التلفزيون الأردني إلي دمشق، وإذا كانوا قد تمكنوا من منع دخول الصحف العربية إلي سورية، لم يعد بمقدورهم بعد ظهور المحطات الفضائية واختراع الانترنيت التشويش علي كل تلك القنوات والمعلومات التي تأتي من كل مكان، والتي تقول وتعرض ما لم تره أعين السوريين أو تسمعه آذانهم أو خطر علي قلوبهم، وتلوث الجو المعقم لسورية التي تحولت بجهود أعمدة الحكمة السبعة للإعلام السوري إلي مختبر بيولوجي كبير، تجري فيه تجربة يومية مستمرة وملحاحة لإثبات نظرية داروين في النشوء والارتقاء البشري من خلال عكسها وإعادة الإنسان في سورية إلي قرد!

وقد بذل أعمدة الحكمة السبعة للإعلام السوري ـ للأمانة ـ ما بوسعهم للاستمرار في تجربتهم البيولوجية علي الانسان السوري، وبذلوا ما بمقدورهم لمواجهة عواصف التطور الإغلامي، فوصفت قناة مثل الجزيرة (قبل ترويضها) بالقناة الصهيونية التي يشارك في تمويلها عدد من رجال الأعمال الاسرائيليين، واتهمت جريدة مثل النهار (قبل الضغط عليها) بالانعزالية، وبحثت أعمدة الحكمــــة السبعـــة للإعلام السوري في معاجم اللغة العربية عن كل المفــردات التي من شأنها أن تخيف السوريين كي لا يقتربوا من أي مصـدر للمعلومات يذكــــــــــرهم بأن هناك عضواً ضامراً من قلّة الاستعمال في أجسامهم هو العقل، ويعيدوا استخدامه بعد أكثر من أربعين عاماً من التعطيل، ولكن محاولتهم فشلت وكانوا كمن يواجه إعصاراً بسيف!

ومع ذلك لم ييأسوا وما تزال محاولاتهم مستمرة لسقف السماء في سورية، فأكثر من نصف المواقع علي شبكة الأنترنيت في سورية محجوبة، وأحد أهم الشروط السورية لعلاقات مع لبنان هو لجم وسائل إعلامه، وجزء أساسي من مهمة السفير السوري في الكويت الاحتجاج علي ما تنشره الصحف الكويتية، وأي مباحثات مع السعودية لا بد وأن تتضمن بنوداً لإخراس وسائل الاعلام التي تمولها السعودية أو تمون عليها، ولكن أكثرية السوريين التي أعادت عقلها إلي العمل تتابع، وتقرأ، وتجد وسيلة ما للوصول إلي ماتريده من المعلومات، أما الأقلية من السوريين الذين نجحت تجربة أعمدة الحكمة السبعة للإعلام السوري في اثبات نظرية داروين عبر عكسها عليها، فتم حجرها كنماذج علي إمكانية إعادة الانسان إلي أصله حسب نظرية داروين في صحف تشرين و البعث و الثورة و التلفزيون السوري ، وفي موقعي أخبار سورية و شام برس الالكترونيين، وتحديداً في الأمكنة المخصصة لتعليقات القراء في هذين الموقعين!!