يحلو للبعض ان يأخذنا كقطيع، يتوجب عليه أن يتبع جرس الراعي لكي لا يضل الطريق، ويريدنا أن نسير نحو المسلخ، بخشوع الخراف، التي اعتادت الصمت، وحرمت على مدى عقود من تجريب موهبتها في الثغاء. إن هذا البعض صار يخول نفسه الحلم في مكاننا، والنيابة عنا في تقرير مصيرنا ومصالحنا.

يتمثل هذا البعض بجيش من خبراء الوطنية العرب والسوريين، الذين نقلوا عدتهم من بغداد الى دمشق. فبعد سقوط "بطل الضرورة" صدام حسين في الحفرة، هاهم يضعون مواهبهم وخبراتهم الوطنية بتصرف فارس زمانه، الرئيس الشاب الدكتور بشار الأسد. لا يكتفي هذا الجيش الذي يسكن الفضائيات بالدعاء للنظام السوري بطول البقاء،بل يريد منا أن نصغي لدروسه،فنحن في نظره بحاجة الى اعادة تأهيل،لأننا قاصرون على المستوى الوطني، وهنالك خوف من أن نبيع رصيدنا الوطني لدى أول وكالة مخابرات أجنبية.

لاندري اذا كان هذا البعض يعرف إن من حق الرعية أن ترفض، أو تقبل وفق مقاييس خاصة بها. وليس بالضرورة أن تكون معايير الوطنية هي ذاتها لدى الجميع من المحيط الى الخليج، واذا كانت هي ذاتها فعلا،كيف يمكن تفسير التناقض في مواقف الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة. فهو وقف خلال القمة العربية الأخيرة، الى جانب نظيره اللبناني اميل لحود في مايتعلق بمحاولته الخروج بقرار عربي، يحصر المقاومة اللبنانية ب"حزب الله"،لكن بلاده كانت تشارك بعد اقل من اسبوع،في بحث ترتيبات امنية مشتركة ضد الارهاب، في اطار الشراكة الاطلسية، بمشاركة اسرائيل؟ نأخذ الرئيس الجزائري مثالا،ونحن نعرف جميعا ان تعريف اسرائيل للارهاب ينطلق من "حزب الله" اولا.ونجد هذا المثال مفيدا في السجال، لأن الوطني المصري أو القطري أو الكويتي أو المغربي، أولى به أن يهتم بمواجهة الاختراقات الاميركية لبلاده، قبل أن يشغل نفسه باحتمال سقوط القلعة السورية الصامدة في القبضة الاميركية.هذا عدا عن أن الذي ورط صدام حسين في مواجهة خاسرة مع الولايات المتحدة،إنما دفع بالعراق نحو أسوأ الخيارات. لقد كان بوسع هؤلاء الخبراء أن ينصحوا بطل "أم المعارك"، بأن ينفض عنه غبار الحروب ويلتفت نحو الداخل العراقي،ليرى هول المأساة التي خلفها حكمه. فحروبه التي توالدت اسقطت المواطن العراقي من مستوى حياة، كان في مصاف المواطن الفرنسي سنة 1974 الى مستوى بنغلاديش لحظة اعلان الحرب الاميركية الأخيرة. أما حال السوريين فحدث ولا حرج.وتكفي معاينة ثروات رامي مخلوف وبقية ابناء الحكم، لاعطاء فكرة عن حجم النهب والتنكيل الذي تعرض له هذا البلد.

هل يدرك هذا البعض الذي ينزع عنا حقنا في ان نكون احرارا في السير على الطريق التي نشاء،أننا تعبنا من المشي على درب الآلام الوطنية،وصارت غاية منانا تنفس الهواء النظيف.؟ أليس من حقنا اليوم، بعد ان عشنا كل هذا القدر من الهزائم والفشل والحروب الداخلية،أن نعطي لانفسنا حرية اختيار مانحب وما نكره.أن نرى الوطن بعين أخرى،بعيدا عن سماء المعركة التي انتظرناها منذ وصول البعث الى السلطة،لكنها لم تحصل إلا في الداخل السوري.؟

يريد البعض أن ينوب عنا في مانريد،فيضع لنا كل صباح مدونة واجبات وطنية لاتختلف عن نصائح البنك الدولي، الذي لايكف عن التبشير بأهدافه "النبيلة"، ووصفاته في اصلاح اقتصاديات الدول الفقيرة،لكنه لايتحرج عن التواطئ سرا، مع مهندسي الفساد والنهب في هذه البلدان.إن حال الخبراء الذين ينصحوننا بطاعة الحكام في بلادنا، لايختلف كثيرا عن حال خبراء البنك الدولي. يطلبون منا كل يوم، أن نلتزم ولا نخل بدفتر الشروط الوطنية، وإلا صنفونا في عداد الخونة والمراهنين على التدخل الخارجي. يلحون علينا لكي نبقى أسرى ثقافة الابتزاز، وان نسقط الوطن لصالح الوطنية، ونقدم عروبتنا، كل يوم، على مذبح حكم الطوائف.

لا يخفى على أحد الهدف البعيد المقصود من وراء الخطاب الوطني المغالي. إنه، ببساطة، يعيدنا الى الشطحات التي سادت في السبعينات، في ادبيات بعض القوى السياسية الفلسطينية واللبنانية والسورية، حول "طريق القدس تمر من عمان"، و"لا سلاح يعلو فوق سلاح المقاومة". لقد تبين لاحقا مدى استهتار ذلك الخطاب، واتضح ان هاجسه الفعلي لم يكن العمل من أجل تحرير القدس، بقدر ما كان يصبو إلى تثبيت اقدامه في عمان. كما أن رفعه السلاح الى مصاف يعلو على كافة الاصوات، كان القصد منه اخراس الآخرين، عن الاحتجاج على خطف الوطن، واحتلاله بقوة سلاح المقاومة، من طرف فصيل سياسي او طائفي.

إن من فقد نصف قرن من بلاده لا يحتاج الى دروس من أحد في الوطنية وحب الوطن، ومن لم يسلم بملكية وطنه الى طغاة الداخل، لا يمكن له، في كل الأحوال، أن يتحول الى مظلة لاحتلال بلاده من طرف طغاة الخارج. يتوجب على الخبراء العرب الذين يثقلون علينا بدروسهم الوطنية، أن يريحونا من "هذا الحب القاسي"، على حد قول الشاعر محمود درويش. نحن لن نقول لهم اهتموا بشؤونكم الخاصة، واتركونا في حالنا، بل ندعوهم الى محاكمة ضمير ليعرفوا عن كثب مدى المعاناة التي تحملها الشعب السوري من حكم المافيات العسكرية والطائفية. نسألهم اذا كان نهب سوريا من طرف عائلة الأسد ومخلوف يسجل في خانة المواقف الوطنية المشرفة، وهل تعطيل الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية في سوريا يخدم الوطن؟

لا نطلب من حلفاء النظام السوري أن يتخلوا عنه، فذلك شأن يخصهم.بل ندعوهم أن يتوقفوا عن الغش،وتوزيع وصفات الوطنية الجاهزة. انهم بذلك معطوفون على احتكار للوطن.آن لهم أن يفهموا بإن الحق الذي يخولهم التحالف مع النظام،يتيح لغيرهم معارضته وحتى العمل على اسقاطه ودحره،سواء من خلال امكانات الداخل وحده،أو بالاستفادة من الضغط الخارجي. ثم انه امر مشروع تعدد زاويا النظر لمشكلات بلادنا، فإذا كانت الاطراف الفلسطينية التي تواجه احتلالا خارجيا، غير مجمعة على مقياس واحد للوطنية وللحل الوطني،فلماذا يتوجب حصر الآخرين ضمن تقسيمات تراعي مصالح بعض الأطراف دون غيرها؟.وهنا يحضرني مثال زيارة رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة الأخيرة الى الولايات المتحدة. لقد كانت احدى نتائجها الاتفاق على تقديم مساعدات عسكرية اميركية، لاعادة تأهيل الجيش اللبناني.هل ينبغي على لبنان رفض العرض الاميركي، لأنه قد يجرح مصداقيته الوطنية،وهل يتوجب عليه في هذه الحالة،من اجل بقاء سجله الوطني نظيفا ، حصر طلب المساعدة بالأشقاء في سوريا وايران؟

لا بد من التوقف عند جانب حساس من هذا الموضوع، حيث يطيب الاصطياد في الماء العكر للكثير من الخبراء العرب واليساريين السوريين الذين يدافعون عن النظام من منطلقات طائفية.صار هؤلاء بقصد، أو من دون قصد ينسبون الى القوى الخارجية، كل من يدعو أو يعمل على رحيل النظام. لكن لسوء حظهم إن هذه البضاعة لم تعد قابلة للترويج، وبات الناس في سوريا ولبنان وفلسطين يعرفون جيدا أن الفضل في العمر المديد للنظام السوري، يعود الى تفاهماته مع القوى الدولية، على حساب المصالح الوطنية، وخصوصا قضية الديموقراطية. وهنا يجدر التنويه بواقعة معروفة. حين سأل مسؤول اميركي الرئيس السوري السابق حافظ الاسد، عن السبب في الاستمرار في اعتقال الزعيم الوطني رياض الترك. كان جواب الاسد: "هل تريدون الافراج عنه، أنه أحد ألد أعداء الولايات المتحدة".

ولا شك إن كل من شاهد اللقاءات التلفزيونية الأخيرة مع الرئيس السوري بشار الأسد، يوافقني الرأي في صحة الاستنتاج الذي توصلت اليه. إن الرسالة الوحيدة التي حملتها مقابلات الأسد مع القنوات التلفزية الاميركية، هي إن الولايات المتحدة لا تعرف مصالحها جيدا، اذا كانت تعتقد أن النظام السوري عدوها. وبالتالي إن ما ينشده الأسد هو تجديد التفاهم الذي سبق وأن أرساه والده مع واشنطن سنة 1976 لحظة دخول الجيش السوري الى لبنان، وأعيد تثبيته أكثر من مرة، وخصوصا خلال عاصفة الصحراء الأولى سنة 1991، عندما شاركت القوات السورية في طرد القوات العراقية من الكويت، تحت قيادة الجنرال نورمان شوراسكوف، الذي أشاد على نحو خاص بدور قائد القوة السورية العميد علي حبيب في احداث الثغرة، في صفوف القوات العراقية.

من سخريات القدر، أن يرى البعض في احاديث الترك ومبادرته، التي دعت الى رحيل الرئيس السوري، تجاوبا مع المشروع الاميركي لتغيير النظام! إن هؤلاء يغمضون عيونهم عن عمد، وسبق اصرار، لأن رؤية الحقيقة، كالتحديق في الشمس، يعمي ويصيب بالدوار، إلا من كان قلبه نظيفا وروحه صافية. فلا الادارة الاميركية في وارد تغيير النظام، ولا قوى المعارضة السورية بلورت مشروعا، يهدف الى حشد الدعم الدولي.

إن هذه الفكرة تستحق الدرس، لكنها لا تعفي السوريين من مسؤوليتهم،في مواجهة النظام والعمل على رحيله، بعد أن صار عقبة في وجه تطور سوريا.