يمثّل رئيس حكومة لبنان، فؤاد السنيورة، حالة خاصّة بين السياسيين اللبنانيّين، والسنّة منهم خصوصاً. فإذا ذكّر رفيق الحريري برياض الصلح، في ما خصّ تأسيس الوطنية اللبنانية ومراحلها، ذكّر السنيورة بسامي الصلح لجهة رفض الابتزاز يُمارس، باسم «العروبة» و»الأخوّة»، على لبنان.

هكذا يصار الى تحريك القضاة الكثيرين في محاكم التفتيش كلما تحرّك السنيورة أو جاهر بحقيقة يُراد أن تبقى مطمورةً تحت الكذب. حتى حين يسعى الى جلاء اسرائيلي، أو مساعدات دوليّة، يمطره القضاة إيّاهم وابلاً من التحذيرات التي تهمّ ان تصير شتائم.

والحال ان حريريّة السنيورة، في الاقتصاد وفي السياسة، مدخل اليه أكثر منها مخرجاً منه. ذاك ان الحريريّة تلك، كما تتجسّد فيه، ثمرة اتّعاظ بتجربة سياسيّة مديدة وقد عُطف عليها الاتّعاظ بمأساة رفيق الحريري نفسه.

فقد تقلّبت الزعامة السنيّة اللبنانيّة في مراحل عدّة، انتهت أولاها عامي 1950 - 1951 مع وفاة عبد الحميد كرامي واغتيال القوميّين السوريّين رياض الصلح في الأردن. ولما كانت اسرائيل قامت للتوّ وشرعت المنطقة تتجذّر على إيقاع الانقلاب العسكري، انتهت، برحيل الصلح وكرامي، مرحلة التكيّف الناجح نسبيّاً مع الكيان السياسيّ اللبناني. وكرّت، بعد ذلك، المحاولات الصعبة والمتفاوتة التي ارتبطت باسمي صائب سلام ورشيد كرامي، فعمل احتدام الوضع العربي، ومن ثم موضوع السلاح الفلسطيني، على تعقيد التكيّف. ذاك أن ما بدأ توافقيّاً مع الثنائيّ فؤاد شهاب - رشيد كرامي، وكان من شروط اشتغاله تحكّم الناصريّة بشطر أساسيّ من صناعة القرار اللبنانيّ، انتهى انفجاريّاً مع الثنائيّ سليمان فرنجيّة - صائب سلام. وفي الحالة الأخيرة، ترافق جرّ لبنان الى الصراع المباشر مع اسرائيل وتخلّف «الطبقة السياسيّة» المارونيّة ممثلةً بفرنجيّة، فبدا كلٌ من الشطرين ردّاً ثأريّاً على شطر المعادلة الثاني. وبعد بؤس التجربة التي تجسّدت بأمين الحافظ، وحاول فرنجية من ورائها الحلول محلّ التمثيل السنيّ، كانت التجربة التي رمز اليها سليم الحص في عهد الياس سركيس وما تلا. وهنا، أيضاً، وبعد تفاؤل عابر بانتهاء «حرب السنتين»، وصلت محاولة التكيّف الى حائط مسدود وصلت تعابيره الى استخدام الانشاء النضاليّ للتظاهرات ومنتديات «العروبة والإسلام» الكثيرة في بيروت.

أما مع رفيق الحريري فجرى نوع من الالتفاف على الموضوع الذي حُرّم وتولّت القوّات السوريّة حراسة تحريمه. ومفاد الالتفاف نقل المسألة من الحيّز السياسيّ الى ذاك الاقتصاديّ. والتغير هذا لم يكن بسيطاً. فقد وشى، بصور مُداورة وعبر مرايا مكسّرة، بأن مشكلة السنّة اللبنانيين الأولى لم تعد مع مواطنيهم المسيحيين، وان التكيّف المطروح لم يعد مطروحاً على الوطنيّة اللبنانيّة، بل على العروبة في زيّها العسكريّ.

وجاءت وحشيّة الردّ على الحريري، حين باشر تسييس وطنيّته الاقتصاديّة، فحمّلت صديقه فؤاد السنيورة تلك المعاني وقد غدت ذات طابع جماهيري.

وبالمعنى هذا، ذهب السنيورة بعيداً في مخاطبته «الآخر» المسيحيّ، وإن عجز كثيرون من المسيحيين، تحت وطأة إحباطهم بسنوات الماضي القريب، عن تلقّي المخاطبة. وفي اجتماع الماضي في «حركة القوميين العرب»، والصيداويّة المطلّة على الشيعة إطلالها على الفلسطينيين، والدراسة في الجامعة الاميركيّة، التقت في السنيورة ألوان الوطنيّة اللبنانيّة المعتدلة والمنفتحة. وأهم من هذا، وهو ما تقوله جريمة اغتيال الحريري، أن الألوان تلك لا تلتقي إلا في وطنيّة لبنانيّة مرنة متعددة الألوان.

وفي مجاراة الاعتدال العربي النامي في دوائر اكتوت بالمرحلة الراديكاليّة وتجاربها، يتصرّف السنيورة كأن الدولة هي الأوّل وهي الأخير، فيضيف الى الطاقم السياسيّ تجديداً تشحذه حقيقة ان الرجل ليس من طبقة الأعيان الميّالين الى الاستعاضة بطوائفهم عن الدولة.

وهنا، ربما، نفهم لماذا يصرّ الأطبّاء في كره الدولة وتحطيمها على «فحص دم» السنيورة، فكيف وأن الأخير، «بفضل» دم الحريري، ليس نافراً في وسطه وبيئته، على ما كانت حال سامي الصلح!