تشكلت خلال السنوات الخمس أو الست المنقضية أطر جديدة للعمل العام في سوريا. معظمها غير معارض من حيث المبدأ، لكن موقف النظام المتحفظ، بل العدائي، حيال كل أشكال الانتظام العام المستقل، وضعها في صف شبه معارض. ورغبة النظام في الاستفادة منها وسهولة اللعب ببعضها، جعلتا البعض هذا بؤرا لإفساد العمل العام، ومنبعا للتلوث السياسي والأخلاقي، وأحيانا مخلبا ضد المعارضة السياسية.

الأطر الجديدة هذه ليست أحزابا بل منظمات حقوق إنسان، أو تجمعات مثقفين مهتمة بالمجتمع المدني أو مراكز بحثية أو هيئات دفاع عن الحريات.. وقد كونها وشارك في بنائها معتقلون سياسيون سابقون، أو مثقفون قريبون من الأحزاب المعارضة، أو حزبيون سابقون، أو أعضاء أحزاب ناشطون في أحزابهم وفي هذه الأطر في الوقت نفسه. وهناك قلة من الناشطين، ليست مجموعة حزبيين سابقين أو حاليين، وهي في الأغلب من الشبان. وتبدو الأطر الجديدة تسوية بين الرغبة في البقاء على قيد العمل العام، وبين مغادرة أحزاب سياسية تجمع بين الخطورة من وجهة النظر الأمنية، وثقل الحركة وفقدان الجاذبية. وهي بمجملها وريثة التقاء سحب الثقة من النظم الفكرية الخلاصية والأحزاب العقيدية من جهة، وما لحق بالمجتمع السوري من تحطيم وتمزيق على يد النظام البعثي، بالخصوص في الربع الأخير من القرن العشرين، من جهة ثانية. بعبارة أخرى، هي وريثة إنهاك شامل فكري وسياسي واجتماعي ومعنوي، أصابها وأصاب المجتمع السوري ككل.
خلال السنوات القليلة الماضية، حاز الطيف المتنوع هذا سلطة رمزية كبيرة، لا تخفيها إلا إيديولوجية معارضة نظام يبدو سلطة محضا. تأخذ السلطة الأخيرة أشكالا متعددة: ظهوراً في وسائل إعلامية متنوعة، شهرة وذيوع صيت، دعوات إلى الغرب والدول العربية للمشاركة في مؤتمرات وأنشطة متنوعة، مشاركات وولائم وجوائز وسهرات.. تخاطب بمجملها تطلعات الصعود الشائعة في أوساط <محدثي الانفتاح> السوريين.

مبدئيا، السلطة هذه ضرورية ومهمة، فهي تمنح شيئا من الحصانة لأصحابها في ظل انعدام الحصانة القانونية والقضاء المستقل في البلد، وهي يمكن أن تفيد في تعزيز قضايا الحريات وحقوق الإنسان في سوريا وجعل صوتها مسموعا، وذلك عن طريق مخاطبة أوساط أوسع من الشعب السوري عبر منابر إعلامية لا تنفتح أمام من لا سلطة رمزية لهم. وهي مهمة أيضا لأنها يمكن أن تكون خطوة على طريق تعضي المجتمع السوري، الفقير فقرا حادا إلى سلطات اجتماعية مستقلة. فتكوّن مراكز سلطة معنوية وفكرية وسياسية متعددة تحد من إطلاقية سلطة النظام وتحد من الفقر السياسي للمجتمع السوري.

غير أن السلطة هذه، في واقعها، ليست دستورية، أعني أنها غير مقيدة بضوابط واضحة وقواعد مستقرة. بل إنها في الواقع سلطة اعتباطية، متروك أمر القرار فيها وشكل توظيفها للمشيئة الحرة لأفراد أو جماعات، ورثوا، كما أشرنا، إنهاكا متعدد الأشكال، ما يعني أن معاييرهم السلوكية والسياسية والأخلاقية ليست في أحسن حالاتها. والصفة اللادستورية لهذه السلطة تحد من أي مراهنات عليها لنصرة قضايا الديموقراطية والحريات، أو لتعضي المجتمع السوري وحيازته درجة من السيادة على الذات في شروط الاستبداد.
ويميل حائزو هذه السلطة إلى تشكيل شبكات خاصة، تشارك بصورة ثابتة في دعوات وأسفار ومؤتمرات.. وتكاد الشبكة هذه تكون حصرية لا يسهل اختراقها، كحالها في كل من لبنان ومصر وفلسطين. لكنها قد تبادر إلى إشراك آخرين حولها من باب إضفاء الشرعية على أنشطتها وقطع الألسنة عنها، كحالها في الدول العربية المذكورة أيضا.

تختفي السلطة هذه، كما أشرنا، وراء معارضة النظام. وهي تستند إلى محاكمة ضمنية تقول: نحن نقاوم الاستبداد ونعارض السلطة. إذاً، نحن محرومون تماما من السلطة. هذا غير صحيح. الواقع أن ما يحوزه أطراف محسوبون على هذا الطيف المتنوع، المستقل وشبه المعارض، من سلطة رمزية كبيرة جدا. وهو غير خاضع للمساءلة، ولا يقدم أي كشف حساب أمام أي أطر ديموقراطية منتخبة.

وحجة الطيف المذكور تناظر تماما حجة النظام لفرض حكمه التسلطي: نحن في حالة مواجهة مع إسرائيل. وكلاهما يطلب ثقة غير مشروطة به وغير تعاقدية. إن التذرع بالمواجهة، مواجهة الاحتلال أو مواجهة الاستبداد، يفيد لاستنكار أي مساءلة وطلب كشف حساب، ولفل الروح النقدية المحتملة عند الجمهور العام، وحجب تراكم السلطة الامتيازية وغير المسؤولة وراء إيديولوجية تضحية ونضال. فكما اقتضى تراكم واحتكار السلطة غير الدستوري إعلان حالة الطوارئ قبل 43 عاما وتعميم ثقافة طوارئ لا تزال فعالة، فإن حيازة سلطة رمزية غير مقننة اقتضت استنفار مواجهة النظام لإسكات أية مساءلة ووصمها بالتشكك. وكما حالة الطوارئ ألحقت أفدح الأضرار بالبلد من دون أدنى ضرر بالعدو المحتل، فإن التذرع بمواجهة السلطة لحجب تراكم السلطة والاستحواذ على عائدات رمزية وسياسية غير مشروعة، يلحق ضررا بليغا بقضية الديموقراطية من دون أن يزعج سلطة النظام في شيء. بل إننا نميل إلى الاعتقاد بأنها ترحب بهذا الشكل من الفساد، لأنه ينسجم مع آلية عمل النظام، تلك التي مل د. طيب تيزيني لفرط ما كررها طوال سنوات: <إفساد من لم يفسد بعد، كي يغدو الجميع مدانا وتحت الطلب>، أو كي <تنكسر عين الجميع>، فلا يجسرون على رفعها في وجه ظلم أو الاحتجاج على فساد. ونتحدث عن فساد لأن للعوائد والرساميل الرمزية، المجنية من دون جهود حقيقية، <أسعار تحويل>، تتيح تسييلها إلى عوائد ورساميل مادية عند اللزوم ( بيير بورديو).

تقوم أطياف العمل العام الجديدة هذه بالدور الذي تقوم به المنظمات غير الحكومية في بلاد عربية وغير عربية عديدة مثل مصر وفلسطين ولبنان وبنغلادش والهند.. وهو دور مفسد في الغالب، ويهدر طاقات غير وفيرة أصلا كان يمكن توجيهها نحو كفاح فعلي ضد الاستبداد (انه ذو دلالة أن المنخرطين في <الشبكة>، المتلهفين على جني عوائد رمزية كبيرة بأسرع وقت، قلما يشاركون في أي أنشطة احتجاجية داخلية، ما يوحي بأنهم يستخدمون الديموقراطية وحقوق الإنسان استخداما أداتيا ونفعيا).

في البلدان المذكورة، تستفيد منظمات مكونة من مثقفين وحقوقيين وناشطين من تراجع الثقة بالأحزاب السياسية، لتشكل جمعيات ومنظمات <مدنية>، تتلقى مساعدات من هيئات تمويل غربية غير حكومية أو نصف حكومية أو حكومية، وتنجز بالمقابل أبحاثا في هذا الشأن أو ذاك، أو تصدر تقارير عن أوضاع حقوق الإنسان في بلدانها، أو عن قضايا المرأة، أو تصمم موقعا إلكترونيا مستقلا...

وفقا لتحليل لأرونداتي روي، الروائية والناشطة الهندية، فإن المنظمات غير الحكومية تتميز ب: (1) <شفط> المساعدات من الجهات المانحة والتهرب من الضرائب في بلدانها؛ (2) أنها مسؤولة حيال من يمولونها وليس من يفترض أنها تمثلهم؛ (3) كونها منحازة حضاريا للغرب، وترسخ الصورة النمطية العنصرية حيال مجتمعاتها بالذات، وتشدد على نجاحات الحضارة الغربية ومنافعها وشفقتها؛ (4) نزع الطابع السياسي عن حركات الاحتجاج العامة وتقويض استقلاليتها (من نص لها بعنوان <مقاومة خطر المنظمات غير الحكومية>، نشر في <لوموند دبلوماتيك> المترجمة إلى العربية في موقع mafhoum.com في تشرين الأول 2004). وتندرج هذه الخصائص ضمن ما قد يمكن تسميته تدويل النخب غير الحكومية، أي تشكل شبكات دولية للتعارف والتواصل بين مجموعات من بلدان مختلفة، تشبه بعضها أكثر مما يشبه كل منها مجتمعه، لكنها مطبوعة جميعا على التشبه بالغرب والاقتداء به ونزع صفته السياسية هو أيضا، ليظهر أشبه بجمعية خيرية.
لا تزال هذه العمليات أقل استفحالا في سوريا مما في بلدان أخرى أتينا على ذكرها. لكن لا فضل في ذلك لحصانة أخلاقية مفترضة يتمتع بها ناشطون سوريون مستقلون. الفضل فيها لحداثة سن الشبكات السورية.

ليس من شأن السكوت على السلطة غير الدستورية التي تجنى باسم العمل العام أن يساعد قضية الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان. إن مقاومة السلطة غير المقيدة ستكون متهافتة أخلاقيا وعقيمة سياسيا إن حررت نفسها من الالتزام بالشفافية والخضوع للمساءلة والمحاسبة أمام أطر ديموقراطية منتخبة. وليس من حق أحد أن يطالب بالثقة به استنادا إلى فضائله الذاتية وسوابقه النضالية. إن أساس الثقة العامة هو الدستور. وأساس الدستور هو عدم الثقة بالفضائل والمزايا الشخصية للأفراد (أو بعقائد وإيديولوجيات الأحزاب والجماعات). فكل ثقة في المجال العام مؤسسة على عدم الثقة بالخواص، أي على وجوب إخضاعهم للرقابة والمساءلة وطلب الحساب!