لن يفهم هذا العالم المتغطرس، عالم السلطات القامعة من داخل ومن خارج، ان علاج الارهاب لن يكون يوما بتمديد حالات الطوارىء، لا ولا بسن قوانين جديدة للمكافحة. لن يفهم ان هناك شيئا اسمه سيكولوجية الكرامة تقع في اساس تكوين الانسان العربي. لن يفهم ان استمرار الاحتلالات والقمع والمنع ومصادرة حقوق الناس واستباحة حقوقهم وكراماتهم لن يؤدي الا الى هذا الجنون الذي يذهب ضحيته من الابرياء قدر ما يذهب من المجرمين او المستحقين. ولكن متى كانت ضحايا الحروب الا من الابرياء؟ ولمادذا يكون ابرياء دهب مثلا او ابرياء مدريد اغلى واكثر نقاء من ابرياء غزة او الفلوجة او النجف او سائر المقهورين في كل ارجاء الارض.

صحيح ان العالم لم يكن يوما جنة من العدالة الاجتماعية والسياسية، ولكنه من الصحيح ايضا انه لم يكن يوما عالم تغول السوق، وتجبر الاقوياء، وانهيار القيم، وصراع الاديان والحضارات كما هو منذ سقوط جدار برلين، وتربع الولايات المتحدة وحدها على عرش العالم، ومن ثم جرها جميع الطامعين الى شراكة ما معها الى تبني نفس المفاهيم ونفس المواقف الظالمة. ’’عدلت فأمنت فنمت!’’ قيلت يوما لعمر بن الخطاب. لكن مسؤولي العالم اليوم لا ينامون بحراسة العدالة والامان وانما بحراسة ترسانات الاسلحة والاجهزة السرية التي بات عملها عمل مافيات تخطف وتسجن وتعدب دون ذنب ودون محاكمة، اللهم الا ذنب عدم الانصياع لخدمة السيد المتفرد بعرش العالم. فلم تكد فضيحة السجون السرية والرحلات السرية للسي آي ايه تنكشف في اوروبا، حتى رأينا تفجيرات دهب، صحيح ان لا علاقة مباشرة بين الامرين ولكن العلاقة غير المباشرة، علاقة الاطار العام قائمة، خاصة ان ردة الفعل الاميركية الرسمية لم تكن التراجع بوصة عن الاسلوب الهمجي بل اقالة العميلة التي سربت الخبر.

اما عندنا فالعراق يحتل ويدمر كما لم يفعل هولاكو بحجة اسلحة يتبين انها كذبة، ثم بحجة انه سيجعل نمودجا للديمقراطية في المنطقة، ولا تكاد دولة ناشئة تمارس خيارا ديمقراطيا، يؤدي الى وصول جهة لا يرضى عنها الغرب الى السلطة، حتى تشن حملة التجويع والمقاطعة والقهر عقابا للشعب على خياره. لماذا؟ وماذا اساءت حماس للغرب كله؟ لا شيء لان اسرائيل لا ترضى عنها. هكذا يصبح الرضى الاسرائيلي شرط الرضى العالمي، ويصبح القرار الصهيوني هو الذي يحكم المشاعر السياسية للعالم وعلى رأسه الولايات المتحدة. فيدمر العراق لانه خطر على اسرائيل، ويتحول لبنان الى ساحة مجانين لان المقاومة خطر على اسرائيل، ويعاقب الفلسطينيون لان حماس خطر على اسرائيل، ولا يهم الغرب في المشروع النووي الايراني الا انه قد يشكل خطرا على اسرائيل، ويشتد الخناق على اية حكومة عربية او اسلامية ترفض التسليم الكامل الخانع بما تريده اسرائيل، وتصبح سوق المزايدة على الاصلاحات السياسية التي يحلم بها المواطن العربي، بان تتم مقايضتها بتنازلات لصالح اسرائيل والولايات المتحدة.

كل ذلك فيما تبرز انياب الجوع وتتراخى اذرع التخلف وتمتد مستنقعات الفقر في ظل اشجار الثروات الباسقة لطبقة محدودة مرتبطة بالخارج. فهل يمكن لنا ان ننتظر بعدها ان تمطر علينا السماء مناً وسلوى؟ وهل لنا ان ننتظر ان تظل هناك آذان مستعدة لان تسمع، ليس فقط خطاب السلطات المرفوض، بل وخطاب العقلانيين العلمانيين؟