كانت نظرة المنطقة العربية إلى الولايات المتحدة، في النصف الأول من القرن العشرين، نظرةً إيجابية فيها الكثير من التقدير العربي للنموذج الأميركي في التحرّر وحق تقرير المصير.

فالعرب لم يضعوا أميركا آنذاك في خانة الأعداء والخصوم لمجرّد أنَّها دولة غربية أو أنّها على تحالفٍ مع المستعمرين للمنطقة في تلك الحقبة (خاصة فرنسا وبريطانيا)، بل فضلاً عن ذلك كان هناك الكثير من التقدير العربي لموقف أميركا عام 1956، حينما قامت الولايات المتحدة بالضغط على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل للانسحاب من سيناء عقب العدوان الثلاثي على مصر.

ثمَّ جاءت الحقبة الثانية في التاريخ الحديث للعلاقات العربية الأميركية، وهي الفترة التي بدأت مع نهاية الخمسينات واستمرَّت حتى أواسط السبعينات من القرن العشرين، وكانت فيها واشنطن في قمَّة حربها الباردة مع المعسكر السوفييتي وكلّ من يتحالف معه.

أيضاً، كانت واشنطن في ذروة موقفها السلبي من مصر عبدالناصر ومن مشاريعه ومواقفه كلّها مقابل دعمٍ مفتوح ومطلق منها للدور الإسرائيلي في المنطقة وللعدوان الإسرائيلي عام 1967.

رغم ذلك، فإنَّ المنطقة العربية لم تشهد آنذاك حالةً من سوء العلاقة بين أميركا والعرب شبيهة بما هو حاصل الآن، خاصَّة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 ثم احتلال العراق.

كانت أميركا، في نظر العرب أيام مصر عبدالناصر، خصماً يدعم عدوّاً هو إسرائيل. وكانت ظروف الحرب الباردة هي التي تحكم التعامل مع أميركا ممّا أوجد حينذاك دولاً عربية صديقة للمعسكر الشرقي مقابل أخرى عربية صديقة للمعسكر الغربي. وبشكلٍ عام، فإنَّ العلاقات كان يضبَطها إمَّا إطار التحالف أو الخلاف بين حكومات.

ولم يكن هناك، خارج إطار العمل الرسمي، جماعات مؤثرة على هذه العلاقات كما هو الحال اليوم مع «جماعات القاعدة» أو غيرها. لكن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، فإنَّ «حالة العداء» هي السائدة رغم عدم وضوح الرؤية على مستوى الحكومات.

ولأنَّ العلاقة بين الدول لا تقوم على المشاعر، بل على المصالح والرؤى الاستراتيجية، فإنَّ المنطقة العربية بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التحليل والدراسة لظاهرة العلاقات العربية الأميركية في مطلع هذا القرن الجديد.

ربَّما يكون مفيداً الانطلاق من أنَّ أميركا هي ليست فقط دولةً كبرى بل الدولة الأعظم المهيمنة على العالم اليوم. وكمثل حال كافَّة الدول الكبرى والإمبراطوريات على مرّ التاريخ، فإنَّ أميركا تسعى الآن (كما سعت طوال القرن الماضي) لتكون القوة الوحيدة المهيمنة على العالم، ونجحت في توظيف عدّة حروب وأزماتٍ دولية لصالح مشروعها التسلّطي على مقدّرات العالم.

واستفادت أميركا من ثغرات وخطايا الآخرين لكي تحقّق نجاحاً فيما تربو إليه. فالمعسكر الشيوعي سقط بحكم خطايا الذات أيضاً، استفادت أميركا من حروب أوروبا الداخلية، ومن ممارساتٍ عدوانية قامت بها ألمانيا، وإيطاليا، إبَّان النازية والفاشستية، ضد بلدان أوروبية أخرى، ومن خطايا الحقبة الاستعمارية البريطانية الفرنسية في دول العالم الثالث.

ولم تصنع أميركا هذه الحروب في أوروبا ولا معارك التحرّر ضدَّ المستعمر البريطاني أو الفرنسي أو الإيطالي، فكانت واشنطن هي وريثة إمبراطورياتٍ قديمة، وتحوَّلت لندن وباريس وروما إلى عواصم من الدرجة الثانية أو الثالثة بعد عهودٍ من الهيمنة على بقاع عديدة في العالم.

فإذا انطلقنا من واقع أنَّ أميركا هي الآن قائدة الإمبراطورية العالمية الجديدة، فإنَّ السؤال المنطقي هو كيفيّة التعامل مع هذا الواقع الجديد على العرب والعالم ككلّ؟!

لعلّ افتراض أنَّ أميركا هي الآن «دولة صديقة للعرب» لا يحمل إطلاقاً أي مصداقية في ظلِّ الاحتلال العسكري للعراق والدعم الكبير لإسرائيل وممارساتها العدوانية على الشعب الفلسطيني، وفي ظلِّ التهديدات الأميركية لأكثر من بلدٍ عربي ولأسباب مختلفة.

إنَّ النظرة العربية لأميركا حالياً محكومة بجملة من الاعتبارات التي تتراوح بين الأمر الواقع القائم في العالم الآن، أي أميركا الدولة العظمى، وبين ما طرأ على هذا الواقع من فلتان في التعامل (من ومع أميركا) عربياً وإسلامياً، بحيث أصبحت حوادث 11 سبتمبر 2001 ثم احتلال العراق، بمثابة بوصلة للعلاقات العربيةالأميركية أكثر من مسألة المصالح والرؤى الاستراتيجية.

فما بين الحذر الأميركي المبرَّر، وبين الهلع الشديد المصطنَع من كلِّ ما هو «عربي» أو «إسلامي»، تعيش أميركا رؤيةً سلبية جداً للمنطقة العربية التي خرجت منها الجماعات التي أعلنت مسؤوليتها عن أحداث 11 سبتمبر.

لقد قامت الإدارة الأميركية الحالية بتوظيف كبير لما حدث في نيويورك وواشنطن عام 2001 من أجل بسط الهيمنة الأميركية وبناء نظام أميركي جديد على عموم العالم. وتمتدّ الوسائل الأميركية من الترغيب إلى الترهيب لعدّة شعوب ودول وحكومات في العالم، ومن ضمنها المنطقة العربية.

قد تكون أجزاء من «الحالة الأميركية» القائمة الآن، هي سمات مؤقتة ترتبط بطبيعة الإدارة الحالية التي ما زال أمامها حوالي العامين من الحكم وصنع القرار الأميركي، لكن ما هو غير مؤقت بتوقيت عمر الإدارة الحالية، هي المصالح الأميركية في العالم مع السعي الأميركي لإبقاء واشنطن هي صانعة القرار للعالم كلّه.

لقد قال ذلك بوضوح الرئيس الأميركي الديمقراطي السابق بيل كلينتون حينما أعلن في مطلع عام 2000 بأن القرن العشرين كان قرناً أميركياً، وأن على أميركا جعل القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً أيضاً.

وكما استفادت أميركا من ثغرات أنظمة وخطايا حكومات وحروب داخلية في أوروبا ولدى المعسكر الشيوعي، فإنها استفادت أيضاً - وتستفيد - من ثغرات وخطايا حكومات عربية وحروب أهلية حدثت وتحدث في المنطقة العربية ولدى بلدان العالم الإسلامي.

لا شكَّ أنَّ أميركا تغيَّرت كثيراً (في الداخل كما في صورتها الخارجية) بعد حوادث 11 سبتمبر.

وأصبح المجتمع الأميركي قائماً على الخوف من «عدوّ مجهول» له سمات عربية وتسميات إسلامية، وأصبحت أميركا من الناحية الأمنية شبيهة بدول في العالم الثالث من حيث التقييد على بعض الحرّيات العامَّة ومحاولات فرض حكم «الأجهزة» و«الحزب الواحد»، إضافةً طبعاً إلى حالة «الجهلوقراطية» التي تعمَّ الأميركيين عن العرب والمسلمين .

ومعظم الشؤون الدولية ممّا يتيح الفرصة أمام بعض وسائل الإعلام الأميركية والجهات الرسمية لملء هذا الفراغ الفكري والسياسي والثقافي بكلّ ما يخدم سياسات من هم وراء هذه الوسائل الإعلامية أو مصالح هذه الجهات.

ومن الواضح أنَّ «عقدة الخوف» عند الأميركيين قد أوجدت داخل أميركا حالة من «الغبن» لدى أبناء الجالية العربية والإسلامية، حيث انَّ هذه الجالية هي الآن محلّ اتّهام حتى تثبت براءتها وذلك عكس الحالة القانونية الأميركية التي تنطلق من أنَّ كلّ مواطن متَّهم هو بريء حتى تثبت إدانته.

الأمر نفسه ينطبق على الدول العربية والإسلامية، التي هي أيضاً متَّهمةً بالإدانة إلى حين إثبات براءتها أمام «محكمة حكومة واشنطن»!.