في الورقة الجامعيّة التي وضعها كارل شميت، إبّان تدريسه في مدينة كولون الألمانيّة، وعُرفت باسم «مفهوم السياسيّ»، جعل سيادة الدولة واستقلالها يرتكزان على التمييز بين «الصديق» و «العدو». أما «العدوّ»، فكلّ من كان «بطريقة خاصّة في كثافتها، شيئاً مختلفاً وغريباً وجوديّاً، بحيث تمكن، في الحالة القصوى، منازعته». وعدوّ كهذا ليس بالضرورة قوميّةً أخرى. فما دام التنازع بين كيانات سياسيّة يملك ما يكفي من الحدّة الاحتياطيّة التي تجعله عنيفاً، يصير أيّ شيء قابلاً لأن يغدو مضموناً فعليّاً للعداوة.

وعلى العموم، اعتُبر «مفهوم السياسيّ» الذي وُضع مع وصول النازيين الى السلطة في ألمانيا، محاولةً لبلوغ وحدة الدولة عبر تعريف السياسة بوصفها تعارُضاً مع «الآخر» الأجنبيّ، ورفع العداوة الى مصاف الشرعيّة التأسيسيّة والأسطورة المؤسّسة.

والحال أن ذاك القانوني والمنظّر البارز الذي تعاطف مع النازيين وانتسب الى حزبهم، يرقى الى أستاذ فعليّ للجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، أو بالأحرى لقرارها، في حال وجود هذا القرار، تعدّي نسبة الـ3.5 في المئة من التخصيب وتطوير سلاح ذرّي. فما تفعله إيران، في حال صحّة الاتهام، انقلابٌ غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، حين أقحمت الولايات المتحدة السلاح هذا في الحسابين الاستراتيجيّ والعمليّ. الا أن ما فعله باقي الدول النوويّة التي انضمّت تباعاً الى النادي، استجابةً منها لعداء وعدو، فسيرتها لا تصحّ في السيرة الإيرانيّة.

ذاك أن تاريخ السلاح النووي هو، بمعنى ما، تاريخ الردع لعدو مباشر وداهم. فالسوفيات طوّروه لبلوغ سويّة الردع مع العدو الأميركي، ثم طوّره الصينيون والفرنسيون والبريطانيون لردع العدو الروسيّ. بعد ذاك فعلت الهند الشيء نفسه وعينُها على الصين المجاورة، فردّت باكستان، عدوّ الهند منذ نشأة الاثنتين، بدخول النادي النووي. وفي الغضون هذه، امتلكت اسرائيل وجنوب افريقيا العنصريّة الذرّة قائلتين انها لموازنة العدو العددي والتحدّي الوجودي ممثّلين بالعرب في الحالة الأولى ودول «خط المواجهة» الافريقية في الحالة الثانية. وعند هاتين الدولتين ان السلاح النووي رهين السيناريو الكارثي وحده. فلئن كان الفارق ضئيلاً جداً بين التعرض لهزيمة عسكرية وبين الفناء المطبق، بات استخدامه مربوطاً حصراً بالسيناريو الرؤيويّ المذكور.

وما «يوجب» في دولتين مجاورتين امتلاك سلاح كهذا ان امتلاكه يستبعد، إن لم يلغ، استخدامه لأن أحداً لا ينتصر في حرب نووية، فيما تنحصر مخاوف الحروب ونشوبها بين الدول غير النوويّة، أو بين دولة نوويّة واثقة من ترسانتها وأخرى لا تتمتّع بالصفة هذه.

ويصحّ القول، على العموم، ان تذليل العداوة المباشرة هو طريق التغلّب على السلاح النووي بقدر ما أن تلك العداوة هي الطريق الى بنائه. فدول العضوية الدائمة في مجلس الأمن تربط، بما لا يخفى من نفاق جماعي، بين التمسّك به والوصول الى صياغة اجمالية للعالم. وبالمعنى نفسه، تربط الهند قنبلتها بباكستان (والصين)، وباكستان بالهند، واسرائيل بالنزاع مع العرب، وجنوب افريقيا (السابقة) بالعداء المستحكم بين نظامها العنصري وسائر قارّتها السوداء. وتبعاً للمنطق هذا كان من الطبيعي أن تفضي نهاية العنصرية هناك الى التخلص من السلاح النوويّ جملةً وتفصيلاً.

فيغدو، إذاً، السؤال المطروح: من هو العدو المباشر الذي «يستوجب» تطوير إيران أسلحة دمار شامل؟

والحقّ أن حجّة «العداليّة» التي يطرحها مؤيّدو طهران، ويكرّرونها بلا تعب، لا تكفي لتفسير التوجّه هذا. ذاك أن «العداليّة»، من وجه أوّل، مفهوم مطلق، وفي مجرد التعامل مع تسلح دول مجلس الأمن بوصفه أمراً بديهياً، والاقتصار في المقارنة على الدول الأضعف، نهبط من إطلاقيّة العداليّة الى نسبيّة العداوات، ومن الأخلاقيّات الشاملة والمبدئيّة، كما يحرص عليها المعادون الجذريّون لكل سلاح نوويّ، الى السياسات العارضة.

ثم أن «العداليّة»، من وجه ثانٍ، حين تُستخدم لتبرير التسلّح الذريّ، تمهّد لفتح الباب على مصراعيه أمام نشاطات مماثلة تجد تغطيتها في «العداليّة» إيّاها: فإذا كان من غير العادل بقاء ايران بلا سلاح نووي في مقابل اسرائيل والهند النوويتين، صار من غير العادل ايضاً بقاء مصر أو تركيا أو السعودية بلا سلاح نووي في مقابل ايران النووية، وهكذا دواليك...

وهو يقود الى وضع الحجج الكثيرة المتداوَلة جانباً والتركيز، تالياً، على حجّة وحيدة هي ان ايران تريد ان تصنع عدوّاً، أو تخترعه، من أجل قنبلتها المفترضة، بعدما درج التقليد على صنع القنبلة لموازنة عدو لصيق ومجاور. ولما كانت الرواية الإيرانيّة عن العداء لإسرائيل مضخّمة جداً لأسباب عدّة، فيها السياسي وفيها العملي وفيها تجارب الماضي، بما فيها فضيحة كونترا - غيت، بات العدوّ الذي تنوي طهران اختراعه خليجياً بالتعريف. ذاك أن عراق ما بعد صدّام يستدعي التمدّد الايراني بقدر استدعائه طرفاً ينوب مناب صدّام في إدامة اللحمة القوميّة وتعزيز النظام باستخدام عقدة الخوف الإيراني من الغرباء والأجانب.

وهنا لا بأس بالمرور السريع على عدد من الوقائع والاشارات التي حفلت بها الأسابيع القليلة الماضية: ففي مقابل «تطمينات» هاشمي رفسنجاني للكويتيين وسائر الخليجيين، ورفسنجاني، كما هو معروف، لم يعد من أساسيي النظام وضامنيه، تقف تلميحات محمود أحمدي نجاد التي يؤرّقها شوق الإفصاح والمكاشفة المرعبين. والى أحمدي نجاد، أجرت البحريّة الايرانيّة مناورات في الخليج استخدمت فيها اسلحة متقدّمة يمكن للخليجيين ان يروها بالعين المجردة.

وفي خلفيّة الإخافة وتشكيل العداوة ان ايران رفضت، وترفض، الاحتكام الى محكمة العدل الدولية لحل النزاع حول الجزر الثلاث المحتلة، على ما فعلت قطر والبحرين لتسوية خلافهما حول فشت الدبل، بل على ما فعلت مصر واسرائيل لدى تسوية مشكلة طابا مطالع الثمانينات. وهي، قبل ذلك، رفعت شعار «تصدير الثورة» الذي بثّ فيه أحمدي نجاد الحياة من جديد، والأمر لا يستلزم ادراكاً استثنائياً لفهم الوجهة المُطالَبة باستيراد المادّة المصدّرة.

ويغدو للرعب قطر أوسع متى أضفنا الخوف الخليجيّ من أي تسرّب نوويّ الى مياه الخليج، وقرب بوشهر الى سواحل الضفّة المقابلة، ووقوع إيران على خط الزلازل، أو رجاحة أحمدي نجاد ومدى جديّة التعهّدات التي يتعهّدها نظام كنظامه، أو تجربة تشيرنوبيل التي أنتجتها روسيا، مصدر التقنيّة الايرانية، وكتب ميخائيل غورباتشوف مؤخّراً، في ذكراها العشرين، أنها كانت السبب الأبرز بين أسباب تصدّع الاتحاد السوفياتي الكثيرة.

وليس من غير دلالة ان يضع حدث كهذا منطقة بكاملها أمام خيارات قصوى هي من الصنف الذي «يختاره» من زُجّ بهم، بين ليلة وضحاها، في عداوة من طراز جذريّ، إن لم يكن وجوديّاً. فالمسألة الذريّة تواكب تفجّراً في العلاقات السنيّة - الشيعيّة يشهد عليه غير واحد من بلدان المنطقة، وهو ما لم يفعل الدور الايراني في العراق، منذ إطاحة صدّام، غير تأجيجه. أما الثراء النفطي فموضوع على محكّ يستعجل إنضاب هذه الطاقة المقدّر حدوث نضوبها بعد خمسين سنة أو ستين. ذاك أن تجنّب الحروب يستدعي، تبعاً لإحدى معادلات العلم السياسيّ النوويّ، سباق تسلّح يردع القنبلة الإيرانيّة عبر موازنتها. وتبقى العروبة التي يُرجّح لها، أو لما تبقّى منها، ان تشهد انشقاقاً يبزّ انشقاقاتها السابقة، فيظهر من يقول، بصريح العبارة، ان اسرائيل قد تخيف الفلسطينيين وبعض المشارقة لكنها لن تخيف الخليجيين كما تفعل ايران، ويظهر، في المقابل، من يحتفل لأنه موعود بمرور السلاح الذرّي فوق رأسه وتمشيط شَعره بغباره.

وهو انتحار أضخم طبعاً من العمليّات الانتحاريّة الجارية. لكن المشارقة المتحمّسين للقنبلة الإيرانيّة لن تُلبّى، في أغلب الظن، رغبتهم لقاء ربّهم إذ ان إسرائيل، كما سبقت الإشارة، ليست الطرف الذي تستهدفه العداوة. أما إذا تحققت الشهوة، بعثت «التقنيّة الإيرانيّة المتقدّمة» على خوف إضافي من النوع الذي تتناوله روايات خرافيّة مستقبليّة، كأن تسقط قنبلة موجّهة الى إسرائيل على «حزب الله» في الجنوب.

فعسى ألاّ تكون قنبلة، وألاّ تُقصَف إسرائيل، أو أيّ مكان آخر، وألاّ تهبط قنبلة إيرانيّة، أو غير إيرانيّة، على جنوب لبنان.