صديقي المدمر لطالما تحدث لي بمأساواية عن صرخة أبي عنترة، سيد بني عبس حين غزيت القبيلة فخاطب شداد عنترة (عبده حتى ذلك الحين) قائلا: كر يا عنترة، انتصر لقومك دافع عنهم، فقال عنترة: وأنى للعبد أن يكر؟ فقال شداد قولته الشهيرة: كر وأنت حر، ولم يكن عنترة قبل حينذاك غير عبد منسي، لا يعترف به شداد ابنا له، وما أن سمع عنترة هذا الفرمان الذي أعتق رقبته، حتى ابلى البطل الصنديد بلاء حسنا ورد الغزاة عن القبيلة!.

صديقي المتشظي، كان يقول لي: أعود آخر النهار، وغالبا آخر الليل، وما في جسدي بقعة إلا وفيها طعنة من هوان، أو ضربة من استباحة، أو جرح في شعور، إما من رب العمل، أو مما اجده في الشارع، أو في نشرة الأخبار، أعود يا صديقي، يقول، بصوت متهدج يكاد ينز دمعا ودما، حيث أطالب بأن أمارس كامل أبوتي، أغدق على الأبناء والبنات فيوضا من حنان، وأنثر في أجواء المنزل كله مشاعر الذكورة والرجولة والفحولة، واثبت للزوجة أنني بعلها المغوار الذي يمسك بزمام المبادأة والمبادرة، وأنا أشعر في أعماقي أنني محض حطام أو نثار إنسان، متشظي الروح، بالكاد أستطيع أن أشخر إن واتتني ساعة من نوم، فتسأله رفيقة الدرب المغشوشة به: ما بالك ساهم واجم؟ فيهز كتفيه أو يتظاهر بعدم سماع السؤال، طالبا شربة ما، أو صحن طبيخ، أو منديلا يمسح به دموع روحه، وحين تصر عليه أم العيال وأمه، التي يشعر بحاجته الماسة لأن يبكي على كتفها، يقول: لا شيء، ثم يكمل في سره: لا شيء يمكن أن يخفف عني إلا أن...! فتقاطعة زوجته بحنان ولربما كانت تقرأ أفكاره: لا بأس عليك، كن ما تشاء أن تكون، لديك ما يكفي من وقت للانسحاب، شو رايك تأخذ غفوة، ثم نتحدث؟ فيقتنص صديقي الفكرة، وينسل مجرجرا أذيال الهزيمة إلى سريره طالبا لخلوة، أين منها النوم! كر وأنت حر.

قالها لي صديقي آخر مرة قبل ان يجد نفسه بعيدا تماما عن بؤرة الحدث، منفيا نفيا اختياريا، سألته في آخر حوار هاتفي معه: ألم تزل تكر يا حر؟ قال لي بعد ضحكة مجلجلة: الا تراني أكر هاربا منك ومن ساحة النزال كلها؟ أثمة كر أكثر من هروبي هذا؟؟ كر وأنت حر! قالها لي صديقي مئات المرات كلما تحدثنا عن مأساة امتنا، وسر تمسكها بذيل القافلة، كر وانت حر، وأنى لمن لم يعرف طعم الحرية أن يكر؟ واين وكيف؟ ومتى؟ كر وانت حر، ربما تكون مفتاحا لحل عقدة العقد في هذا الشرق، إن سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا حتى، أو تنمويا واجتماعيا!