نصر شمالي

كان الصهاينة الروّاد يقولون أنهم اتفقوا مع الإنكليز على استلام فلسطين خالية من السكان! وكان آخرون يردّدون أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض! وكانت الذئبة غولدا مائير تجيب عندما تسأل عن مصير الشعب الفلسطيني: أين هو الشعب الفلسطيني، أنا لا أراه! وفي ما بعد أبدى بعض المستوطنين الصهاينة الجدد دهشتهم وأسفهم حين اكتشفوا أن فلسطين ليست خلاءً، وأنها عامرة بأهلها العرب، وأن الحركة الصهيونية خدعتهم، لكن أصحاب المشروع الاستيطاني الاستئصالي، من اليهود وغير اليهود، واصلوا العمل على أساس أن الشعب الفلسطيني غير موجود، وإذا كان موجوداً يتوجب تشتيته وتدميره وإبادته، أي أن على الواقع التطابق مع الفرضية وليس العكس، وإن في هذا المنطق من الوحشية ما يعجز اللسان عن وصفه حقاً، حيث ترتّب عليه استخدام أحدث الطائرات المقاتلة العملاقة كسلاح فردي للاغتيال الفردي، مثل المسدّس، فلم تعد هذه الطائرات الأميركية تستخدم في فلسطين لمقاتلة الجيوش، أو للإغارة على جموع بشرية في مواقع حربية، بل صارت تستخدم للإغارة على بيت سكني أو سيارة سياحية، بل حتى على كرسيّ طبي ينقل الشيخ الشهيد المقعد أحمد ياسين من بيته إلى المسجد! وهكذا برهن تطور الأحداث الميدانية، عبر عشرات السنين الرهيبة، أن المشروع الصهيوني قد وصل إلى طريق مسدود بعد اصطدامه بالحضور المتنامي العظيم الفعالية للشعب الفلسطيني البطل، وهو الحضور الذي لا تقوم معه قائمة لهذا المشروع الذي يشترط انعدام أية فعالية فلسطينية مؤثرة، وبناء على ذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: من هم المحاصرين في فلسطين اليوم؟ هل هم أولئك الذين لا يملكون سوى أجسادهم وأرواحهم وإرادتهم، الذين امتنعوا على جميع عوامل الفناء، وأرغموا أعداءهم الاستئصاليين على الاعتراف بوجودهم المتنامي، أم هم أولئك الذين قدموا إلى فلسطين باعتبارها خالية من السكان، فإذا لم تكن كذلك فإن النظام العالمي الصهيوني سوف يمكّنهم من جعلها كذلك؟

* * *

إن في فلسطين اليوم حكومة شرعية منتخبة بإشراف دولي، والعدو يقف أمامها حائراً لا يملك غير ارتكاب الحماقات لمواجهتها، وبينما لدى الأعداء الكثير مما يخشون خسارته، فإن الشعب الفلسطيني وحكومته لا يملكون ما يخشون خسارته، اللهم إلا وحدتهم الوطنية وإرادتهم الصلدة، فمن الذي يحاصر الآخر؟ ثم إن الحكومة الفلسطينية لم تأت من فراغ بل من زحمة الأحداث التاريخية ومن أعماقها، وهي لا تجهل أوضاع العالم وأوضاع أمتها وشعبها، بل هي تعرفها جيداًُ، فرؤيتها السياسية، حسبما شرح الشهيد القائد الشيخ أحمد ياسين، تتجاوز فلسطين إلى الوطن العربي والإسلامي، وتتفاعل مع قضايا العرب والمسلمين عموماً، وتحدّد بوضوح نهضة الأمة العربية من كبوتها بالتخلص من التبعية والاستبداد. إن الحكومة الفلسطينية الحالية تعي جيداً أن الوطن العربي ممزّق وضعيف ومتناحر نتيجة عهود الاستعمار المباشر، وأن تمزقه وضعفه وتناحره جعله تابعاً للولايات المتحدة والغرب، الأمر الذي أضرّ بفلسطين وشعبها كما أضرّ بجميع المواطنين العرب، وأن هذه الحالة المؤسفة هي نتاج تخطيط استعماري صهيوني غربي قديم وجديد. إن الحكومة الفلسطينية الحالية، مثل غيرها، تعرف جيداً أن السياسة الغربية، وبالذات البريطانية ثم الأميركية، هي المسؤول الأول والأساس عن حالة التمزّق العربي، وعن قيام الكيان الصهيوني واستمراره، وعن معوقات التحرير والنهوض العربي والإسلامي، وقد أوجز الشيخ ياسين المشروع الصهيوني بأنه استعماري صليبي صهيوني يستهدف فلسطين والعرب والمسلمين، لكنه أضاف أن مسؤولية الغرب عن نكباتنا لا تعني إلقاء التبعة على العوامل الخارجية وحدها، وإعفاء النظام العربي والأمة من المسؤولية، فاستمرار النكبات وتفاقمها يعود بالدرجة الأولى إلى فشلنا وليس إلى قوة العدو والتآمر الدولي، أي أن الحكومة الفلسطينية الحالية تعطي للمسؤولية الداخلية، الفلسطينية والعربية والإسلامية، الدور الأول، لكن الشيخ أحمد ياسين، وحكومة حماس طبعاً، يفرّق بين الأنظمة العربية الحاكمة وبين الشعوب العربية المحكومة، وإذا كان لا يلغي التعامل مع هذه الأنظمة فإنه لا يعوّل عليها، حيث تحرير فلسطين يقتضي تغييراً جوهرياً في الواقع العربي، وحيث المقاومة الفلسطينية عامل ايجابي مساعد في تحقيق التغيير العربي المنشود.

* * *

أما عن الداخل الفلسطيني فإن للحكومة الفلسطينية الحالية رؤيتها المتكاملة العميقة بصدده: تكوين مرجعية وطنية تعيد بناء هيكلية مؤسسات منظمة التحرير، وتعيد تشكيل مجلس وطني في الداخل والخارج، أي إعادة الاعتبار والاحترام لهذه المؤسسات وليس هدمها أو إلغاءها، فهي مؤسسات وطنية ليست ملكاً لفصيل بعينه، والدفاع عنها وتفعيلها هو قاعدة من قواعد العمل الوطني الفلسطيني.

خلاصة القول أن الحكومة الفلسطينية الحالية تعتبر الوحدة الوطنية برنامج عمل وليس مجرّد عنوان أو شعار، وتدعو إلى إقامة مؤسسات وطنية تجمع ممثلي الشعب في الداخل والخارج على أسس ديمقراطية، وبناء على انتخابات حرّة نزيهة، تحمي المقاومة وتقمع الفساد وتزيل الاحتلال، وفي حالة متقدمة كهذه يكون السحر قد انقلب على الساحر، ويصبح من السهل تحديد من هو المحاصر في فلسطين اليوم.