ربما حمل توني بلير وجهاً قبيحاً في سياسته الخارجيّة، وفي لهاثه وراء سياسات جورج بوش بنقديّة أقل كثيراً من أن تستحق التسمية هذه. وربما كان لبلير وجه أقبح في العاطفيّة الميلودراميّة التي يضفيها على أدائه السياسيّ، مسوقاً بـ«تحسين الصورة». لكن رئيس الحكومة البريطانيّة ليس كذلك في ما خص اقتصاد بلاده.

وهو ما يُلاحَظ بقياس بريطانيا الى باقي أوروبا المريضة، وتحديداً بلدانها الثلاثة الأكبر والأقوى: ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. فالأخيرة التي خلّفها بيرلوسكوني في حال من الانهيار المؤجّل، قد يعجز الائتلاف العريض الفائز عن إصلاح اقتصادها، سيّما وأن بعض أحزابه اليساريّة غير المُصلَحة يرفض الإصلاح والعولمة أصلاً، هو الذي أودى بحكومة سابقة لرومانو برودي. أما فرنسا وألمانيا اللتان تعانيان انخفاض النموّ وارتفاع البطالة، فهُزم «تعاقُد» دوفيلبان في الأولى، ولا تزال التوقّعات تتضارب في شأن الإصلاح في الثانية، وإن وقف وراءه ائتلاف عريض يضمّ حزبي البلد الرئيسين.

في المقابل، يجمع المثال البريطاني الذي قدّمه بلير ووزير خزانته اللدود غوردون براون بين مرونة سوق العمل بما يتيح خفض البطالة وعدم التسبّب بآثار اجتماعيّة موجعة. وهنا يخطئ حقّاً الذين يتحدّثون عن نموذج «أنغلوساكسوني» أو «أنغلو - أميركي» في الاقتصاد يندرج تحته جورج بوش وبلير مثلما يندرجان في حرب العراق. فبريطانيا، اليوم، تترجّح بين النموذجين الأميركي والاسكندينافي: من جهة، تشجيع اليد العاملة على البحث عن فرص عمل في مقابل تقديمات البطالة، وإبقاء أكلاف العمالة على أرباب العمل منخفضة مع توسيع نطاق عقود العمل وأصنافها، ومن جهة أخرى، تقديم حدّ أدنى معقول نسبيّاً للأجور، وعدم التحيّز ضدّ النقابات، على ما كانته الحال في السنوات الثاتشريّة، ورفع عوائد الولادة للأمّهات والآباء، مع تنامي الاستثمار في التدريب على المهن الجديدة وتوفير حماية فعليّة ضدّ كل معاملة في العمل مجحفة.

وهذا، بطبيعة الحال، متواضع جداً بأيّ قياس «اشتراكيّ» يتمسّك به، مجزّأً أو مجمّعاً، بعض قدامى العماليين البريطانيين. إلا أن ما تفعله إسبانيا ليس صدفة عديمة الدلالة في ما خصّ الممكن وغير الممكن راهناً. ذاك أن رئيس حكومتها جوزيه زاباتيرو يُعدّ، اليوم، تلميذاً لبلير في الادارة الناجحة لاقتصاد بلده، هو الذي وصل الى رئاسة الحكومة ناقداً وناقضاً لسياسات خارجيّة كالتي يتبعها رئيس الحكومة البريطاني. فقد فاز اشتراكيّو زاباتيرو، كما هو معروف، بسبب فعلة خصومهم المحافظين حين ردّوا جريمة 11/3 في مدريد الى «إيتّا» الباسكيّة محاولين إشاحة النظر عن ضلوعهم في حرب العراق تيمّناً ببوش وبلير.

فعلى مدى عامين من حكمه استطاع رئيس الحكومة الشاب توفير أوّل فائض تعرفه الموازنة الإسبانيّة منذ عقدين، كما خفض البطالة من 12 في المئة الى 8.7 موجداً، السنة الماضية وحدها، 60 في المئة من مجموع فرص العمل الجديدة في دول الاتحاد الأوروبيّ جميعاً. وإذ قُدّر أن نموّ الاقتصاد سيبلغ، للعام 2006، نسبة 3.3 في المئة، فهذا ما لم يكن ليتحقّق لولا الجمع بين البُعدين البليريين: من جهة، إصلاحات ماليّة دراميّة الطابع مصحوبةً ببعض الخفوض في الضرائب وبعض الحوافز لرجال الأعمال، ومن جهة أخرى، اعتماد إصلاحات اجتماعيّة وثقافيّة واسعة، كرفع التمثيل النسائي في الحكومة، الى النصف، وإصدار تشريعات جديدة ضد العنف الجندريّ، والدفع باتجاه تضييق الفجوة بين أجور الجنسين، والسماح للمثليّين بالتبنّي، وتسهيل الطلاق، وإنهاء إجباريّة التعليم الدينيّ في المدارس. ولئن كان التحديث في إسبانيا أشدّ إلحاحاً منه في بريطانيا، أخذ زاباتيرو عن بلير، في الشقّ الاقتصاديّ، توسيع النموّ وتسهيل الاستثمار مصحوبين بحماية العمالة ومضاعفة برامج التدريب على مهن جديدة.

وفضلاً عن أصولهما في اليسار، قد يكون القاسمان المشتركان الآخران بين رئيسي الحكومتين أنهما ورثا سلفيهما في اليمين، ثاتشر وأثنار، فلم ينقلبا عليهما بل احتفظا بما اعتبراه إيجابيّاً في تجربتيهما، وأن عهديهما سجّلا نهاية البؤرتين الأخيرتين للعنف في أوروبا الغربيّة: إيرلندا الشماليّة وبلاد الباسك.

وهذا لا يلغي أن بلير، بعد تسع سنوات في داوننغ ستريت، متعب زادته حرب العراق ترنّحاً. أما زاباتيرو ففي عزّ شبابه السياسي، زاده الخروج من العراق شباباً.