للوهلة الأولى، يبدو هناك شبه كبير بين دعوة الرئيس الفلسطيني مختلف الأطراف السياسية الى حوار وطني مع الدعوة التي وجهها رئيس مجلس النواب اللبناني الى حوار وطني بين القوى السياسية التي لبّتها ودخلت فعلاً في حوار فتوصلت الى تفاهمات واتفاقات على «البديهيات»، ثم اصطدمت بتعقيدات ما جاءت أصلاً لانجاز - بالحوار- فتعذرت الحلول. وأهم وجوه الشبه بين الدعوتين أن صاحبيهما توجها بهما سعياً الى الحد من أضرار الوضع القائم، أكثر مما سعيا الى تغيير أو الى وفاق أو حتى الى اصلاح. ويبدو أن الدافع الأساسي في الحالين هو أن استعصاء المشاكل يستدعي تمييعها طالما أن الحلول الصحيحة غير متوفرة. ها هو التمييع نجح في لبنان ولو على مضض شعبي، فهل ينجح فلسطينياً بترحيب شعبي هاجسه تفادي القتال الأهلي؟

لا شك في أن دعوة «أبو مازن» الى حوار وطني تأتي في وقت منطقي جداً. فلو أطلقها بعد الانتخابات وقبل تشكيل حكومة «حماس» لفُسرت على غير محملها، ولو أطلقها بعد تشكيل هذه الحكومة لفُهمت بأنها تشويش على «حماس». أما الآن وقد وضحت المواقف تقريباً فلم يعد أمام الرئيس الفلسطيني ما يخسره، فهو حاول التمايز عن «حماس» وخاض معها حرباً غير منظورة على الصلاحيات ومع ذلك لم يقابل أميركياً واسرائيلياً إلا بمزيد من السلبية والتهميش، كما أن الاتحاد الأوروبي عامله بخذلان مبالغ فيه، ولولا أن الرئيس الفرنسي يحرص دائماً على التمايز في مواقفه العربية لما دخل في محاولة البحث عن حل لدفع رواتب الموظفين. إذاً، فهم «أبو مازن»، ويرجى أن تكون قيادة «فتح» فهمت أيضاً، أن المأزق بات يلتف كالحبل حول عنق الفلسطينيين جميعاً، ويستحسن أن يعالج بالحوار طالما أن شيئاً لم يكتسب من التوتر الداخلي أو من الصراعات التي غزت الشارع الفلسطيني قبل نحو اسبوع.

لكن يفترض أن لا يكون الهدف هو التمييع بل ايجاد صيغة عمل تضمن مساهمة الجميع بدل الانزلاق الى ألاعيب اسرائيلية باتت مكشوفة المرامي. ولعل أخطر هذه الألاعيب أن اسرائيل مصممة على معاملة كائناً من كان في السلطة بأساليب الإذلال والتحقير، ومنذ انخراطها في تنفيذ «خطة الفصل» باتت اسرائيل تعتبر انها تحتاج الى محاور من الطرف الآخر. وأياً كان اسم ذلك المحاور ولونه السياسي، ومدى اعتداله أو تطرفه، فإن الاسرائيليين أصبحوا يجدون مصلحة في اثبات عدم وجود أحد يمكن التعامل معه في الجانب الفلسطيني. هذا يريحهم أكثر في الخطة، بل انهم أنجزوا اقناع الإدارة الأميركية بأن أي تفاوض سابق مع الفلسطينيين أدى الى أبواب موصدة وآفاق مسدودة، وبالتالي فالأفضل القيام بخطوات اسرائيلية أحادية الجانب وفرضها كأمر واقع والحصول على «شرعية» دولية لها.

الحوار المطلوب والمرتقب يجب أن يكون للمصارحة، ولتحديد مفهوم واحد للمصلحة الوطنية، وصولاً الى آليات صونها، لا أن يتحول ساحة للمزايدة خارج الحوار نفسه أو داخله. إذ أن الطريقة التي اتبعت حتى الآن من خلال السلطة للوصول الى الحقوق الفلسطينية، والى وضع سلمي دائم، بلغت طريقاً مسدوداً بمعزل عمن كان أو لا يزال في السلطة. ثم ان الخطوط الحمر التي تعمل حركة «حماس» على أساسها تكاد تغلق الأبواب العربية والدولية في وجه السلطة ومن فيها. لذلك يفترض أن يهتم الحوار بايجاد المخارج، لأن لا مصلحة للشعب الفلسطيني في أن يعزل أو يجوّع، ولا في أن يعطي اسرائيل ما تسعى إليه فعلاً، وهو أن تعمل بلا حسيب أو رقيب.

الى ذلك، يفترض أن يكون هناك حوار عربي مواكب للحوار الفلسطيني. فالمشكلة المستعصية سابقة لمجيء «حماس» الى السلطة، وما يسمى «تسوية» أو «خريطة الطريق» أو حتى «عملية سلام» متوقف بفعل انقلاب اسرائيل على التفاوض وعلى المفاهيم التي وضعت لعملية نزع الاحتلال. ليس أمام الفلسطينيين سوى خيارين هما المقاومة أو التفاوض، وقد أصبحا الآن في مأزق. وفي مقابل الشروط التي تفرض عليهم دولياً، لا توجد أي شروط على اسرائيل، على رغم أن أي «تسوية» تتطلب سلوكاً سلمياً من الطرفين، خصوصاً من الطرف المحتل والمعتدي. مسؤولية العرب الآن أن يعملوا لدفع المجتمع الدولي الى إعادة النظر في المنهجية التي اعتمدها بحثاً عن التسوية، وإلا فإن الجميع يتحمل مسؤولية انهيار السلطة الفلسطينية والفوضى التي ستنشأ على انقاضها.