من حق الأخ العربي في ديار الوطن وفي دنيا الاغتراب بين أوروبا وأفريقيا، وصولاً الى كندا وأميركا وأستراليا، أن نفسر له بين الحين والآخر بعض الألغاز في المسألة اللبنانية، ذلك انه يسمع ويرى على شاشات الفضائيات الكثير في شأنها، إلا انه لا يجد تفسيراً لها. ويبقى اللغز الذي يتعلق برئيس الجمهورية الجنرال إميل لحود هو اللغز الذي لا يضاهي لغوزيته سوى لغز «أبو الهول». فعند اختياره هو بالذات، من جانب الحكم السوري، وكان الرئيس حافظ الأسد ما زال على قيد الحياة، ليكون رئيساً للجمهورية واختيار خلَف له بالذات هو الجنرال ميشال سليمان ليكون قائداً للجيش، فعلى أساس أن سليمان اللبناني يكون مستقبلاً مثل سليمان المصري، أي الجنرال عمر سليمان، خلفاً للرئيس حسني مبارك وهذا ما تريده أميركا لترسيخ برنامجها المتوازن في المنطقة. ولقد سار الخيار السوري على النحو الأفضل ولم يحدث أن تجاوز الجنرال لحود الاستراتيجية المرسومة بدقة من جانب الرئيس الأسد الأب وبحيث أن الأمور بقيت تحت خط الرضى بالنسبة الى أمرين مهمين:

الأول أن يكون رئيس الجمهورية اللبنانية المسيحي الماروني إميل لحود حليف «حزب الله» الشيعي وحركة «أمل» الشيعية كونهما القوتين الضاربتين في العمق اللبناني للحكم السوري المتحالف عن نصف اقتناع ونصف ضرورة مع النظام الثوري في إيران. ولقد كان الرئيس لحود عند حسن الظن السوري به بالمعنى الايجابي لـ«الظن»، إذ طوال سنوات الولاية الرئاسية الأولى لم يصدر عن الرئيس أي كلام يخرج عن نطاق الرؤية السورية للعلاقة التحالفية المطلوبة وهي أن المقاومة المتمثلة بـ «حزب الله» هي التي قامت بواجب التحرير، وأن مهمتها لم تنته بانسحاب القوات الإسرائيلية، تنفيذاً للقرار 425 الصادر عن مجلس الأمن، من الجنوب، ولن تنتهي إلا بعد تحقيق الانسحاب الكامل من «مزارع شبعا» و«تلال كفرشوبا». أما الأمر الثاني المهم فهو أن يكون قائد الجيش الخلَف الجنرال ميشال سليمان متفهماً لما هو مطلوب فلا يتجاوب مع الأطراف التي تطالب بإرسال قوات من الجيش الى الجنوب تحل محل قوات «حزب الله».. أي بما معناه إخراج الحزب كورقة فاعلة في اليد السورية من كفة ميزان القوى. وبصرف النظر عما إذا كان الجنرال سليمان كعسكري مقتنعاً بذلك أو أنه غير مقتنع، لكن احتمال الترؤس بعد لحود يجعل عدم الاقتناع أمراً ثانوياً، إلا أنه في النهاية انتهج الرؤية السياسية للمسألة، وبذلك بقي دور الجيش اللبناني ضمن الرؤية السورية مع توضيحات بين الحين والآخر لمساوئ إرسال الجيش النظامي الى مناطق الحدود.

جاءت الوفاة المباغتة للرئيس حافظ الأسد، ومن قبل ذلك مقتل الابن باسل الذي أعدَّه لكي يخلفه كونه، أي الأب، في وضع صحي على درجة من الدقة، تُحدِث ارتباكاً في الوضع، ذلك ان التسوية السورية ـ الإسرائيلية الموعود بها من جانب الإدارة الاميركية في زمن كلنتون لم تتحقق في حياة الأسد الأب، ثم دخلت مع بوش الابن مرحلة المراوغة في عهد الأسد الابن الدكتور بشّار الذي وجد نفسه مضطراً للانتقال بعد مقتل شقيقه، في حادث ربما يكون مدبَّراً وربما هو حادث سير عادي، من مجال التخصص الطبي في أمراض العيون الى مجال استيعاب دروس مكثفة في مجال ادارة شؤون البلاد وعدم التفريط بلبنان مهما كلَّف الأمر..

وبالذات لبنان على نحو ما سارت عليه الأحوال في السنوات اللحودية، لأنه ما دام النظام ممسكاً بلبنان وبالذات برئاساته الثلاث: الجمهورية ومجلس النواب ورئاسة الحكومة، ومعها «حزب الله»، فإن قدرة النظام على التفاوض مع إسرائيل في حال ارتأت الإدارة الأميركية إنجاز التسوية المرجأة تكون قوية. كما أن هذه الإدارة ومعها إسرائيل ستطرقان الباب السوري من اجل الحل إما على نحو ما حدث مع مصر في الحد الأقصى، أو من خلال مقايضات يكون فيها الأمر الواقع السوري في لبنان مقبولاً

. وعندما قاربت ولاية لحود على الانتهاء ولم يحدث طرق الباب على النحو المأمول، فإن الرئيس بشَّار في ضوء نصيحة من الوالد او رؤية توافقية من مراكز القوى الفاعلة في النظام ارتأى التمديد للرئيس المتفهم والمتعاون إميل لحود، مستنداً في ذلك الى سابقة التمديد التي أرادها الأسد الأب للرئيس الياس الهراوي في انتظار اكتمال خطة التجانس في العقيدة العسكرية للجيش اللبناني مع شقيقه الجيش السوري، والتي أتقن تنفيذ مراحلها الأولية قائد الجيش إميل لحود. وهو، أي الرئيس بشَّار، فعل ذلك لأن الإدارة الأميركية ليس فقط لم تطرق الباب من اجل التسوية وإنما هي لم تسأله حتى رأيه في من سيخلف لحود، وكان يرى أن السؤال معناه الإقرار بالدور السوري في المعادلة اللبنانية في ما يخص رئاسة الجمهورية.

بعد التمديد الذي أفرز وضعاً سياسياً خطيراً في لبنان دخلت الإدارة الأميركية بكل عزيمة وعلى المكشوف على خط الأزمة بين أطراف سياسية لبنانية والنظام في سورية، وبدأت تنشط في اتجاه إسقاط هذا النظام من خلال إضعاف شأنه في لبنان لكي تحل محله. وجاءت واقعة اغتيال الرئيس رفيق الحريري تشكل الفرصة المناسبة للانقضاض على الشأن السوري فكان الانسحاب العسكري الاضطراري الذي يعتبره الرئيس بشَّار عودة للقوات.. أي مثل تصنيف ما حدث لمصر يوم 5 يونيو 1967 بأنها «نكسة» وليست هزيمة. وهنا بدأ العمل لاقتلاع الشأن السوري بدءاً بإجبار رئيس الجمهورية إميل لحود على الاستقالة. ولذا يمكن القول إن هذه الاستقالة في حال حدوثها تكون مثل انسحاب القوات السورية. كما أن حدوثها يعني أن رئاسة الجمهورية لا تعود خياراً أو قراراً سورياً، ويعني أن رئيس الجمهورية البديل لا يمكن أن يقول، كما درج الرئيس لحود على القول، إن مهمة «حزب الله» كحركة مقاومة لا تنتهي إلاّ بعودة الفلسطينيين من لبنان الى وطنهم فلسطين، الأمر الذي يعني ان التحالف مع «حزب الله» قائم.

ومع الرئيس البديل يتم انسحاب القوات الإسرائيلية من «مزارع شبعا» و«تلال كفرشوبا» على نحو انسحاب إسرائيل بالحسنى من «طابا» في مصر. وفي ضوء هذا الانسحاب يصبح ترسيم الحدود مع سورية برسم التنفيذ ويتم حسم هوية تلك المزارع، فإما هي لبنانية ويكون لبنان ربح أرضا لم تعد محتلة، وإما هي أرض سورية تدخل ضمن صفقة التسوية مع الحكم البشَّاري وبعد ذلك يصبح تبادُل التمثيل الدبلوماسي أمرا لا بد منه. أما «حزب الله» فإنه في هذه الحال يكون أدى قسطه للعلى... إنما من دون أن يخلد الى النوم، وإنما يتصرف بعد الجهاد العظيم لتحرير الأرض الى الجهاد الأعظم لتأهيل الحزبيين والمحازبين بأنهم لبنانيون أباً عن جد وأن مسؤولية كل لبناني من الجنوب الى الشمال الى البقاع مروراً بالعاصمة بيروت هي تبرئة الذمة نحو الوطن والشروع في بنائه... والحفاظ عليه من لعبة الأعداء وتلاعب الأصدقاء ولُعاب بعض الأشقاء.