في تاريخ حقبة الاستقلال الوطني العربي حدثان انفصاليان يقعان علي مستوي قطرين اثنين لكنهما يستوليان علي مفاصل رئيسية في سيرورة النهضة كأحداث وتداعيات تعزز من نقائض النهضة نفسها، تهددها بمفاعيل انحطاط تناسته ذاكرتها. لكنه يظل حاضراً يطلّ برأسه فجأة، مبرهناً في كل مرة أنه هو الثابت وسواه هو الاستثناء.

قبل خمسة وأربعين عاماً وقع تفكيك أول وحدة بين دولتين مستقلتين حديثاً، مصر وسورية. وقبل عام ابتدأ الشروع في تحقيق أحدث تفكيك آخر يتناول التوأمين الأقرب إلي بعضهما، سورية ولبنان

في الوحدة الأولي التي أعلنت قيام أول دولة لكيان سياسي عربي رائد تحت اسم: الجمهورية العربية المتحدة، كان ثمة عوامل انفصالية كثيرة، قديمة ومستحدثة، جري إيقاظها وتنشيطها بسرعة فائقة تحت شكل الوحدة السياسية. منها، وربما من أهمها، ذلك التباعد الجغرافي بين القطرين، وفي مركزه تمارس إسرائيل مهمة الحارس التاريخي المصطنع للانشقاق الجغرافي المتوارث في أرض الوطن العربي الأكبر ما بين مشرقه ومغربه. فلم يكن مقبولاً ولا معقولاً أن يمر جسر الوحدة ما فوق رأس الكيان الصهيوني الناشئ حديثاً، دون أن يستثيره ويستفز فيه أعمق إحساس بخطر الزوال لوجوده الرخْص والدخيل أصلاً. وقد وصف ليفي أشكول رئيس وزراء إسرائيل حين إعلان الوحدة أنها أمست واقعة بين فكيّ كماشة: كما أحسّ كل من معسكريْ الغرب بزعامة أمريكا والشرق بقيادة موسكو، أنهما أُخذا علي حين غرة. وأن خارطة سايكس ـ بيكو المستمرة منذ عشية الحرب العالمية الأولي، قد تعرضت للمحظور الأكبر، وهو التجرؤ علي (استقرار) حدود التقسيم التي سجنت داخلها كيانات ممزقة سُميّت دولاً ومُنحت استقلالات، وأنعم عليها صانعوها بحقوق السيادة الوطنية علي أراضيها ومجتمعاتها المشرذمة، شرط ألا تفكر إحداها بأية اختراقات لأسوارها. فكيف إذا ما تعانق فجأة مشرق الوطن ومغربه، وامتد جسر التكامل البنيوي بين أهم دولتين فيهما: مصر كبري أقطار العرب في مختلف المقاييس حجماً إنسانياً وحضارياً وجغرافياً، وسورية الشام، حاضرة التاريخ وتراثه، ورائدة المشروع النهضوي بوعوده المستقبلية.

ولقد اهتزت عروش وممالك الخارطة الاستعمارية تحت وقع الحدث الوحدوي الاستثنائي، الذي اعتبره آنذاك الجيل المعاصر له، أنه هو الحدث الاستقلالي الأول الحقيقي المصنوع بإرادة الشعبين وغير الممنوح، أو المفروض بالأحري من قبل الأجنبي المهيمن، كما كان حال الاستقلالات القطرية السابقة التي كانت من نتاج متغيرات في استراتيجية توازن القوي، وتقاسم مناطق النفوذ، بين معسكري الحرب الباردة المتصاعدة. وعلي هذا الأساس يمكن القول أن تحالفاً فورياً، دولياً وإقليمياً، قام كرد فعل رافض للتغيير العربي، وساعياً مباشرة إلي تطويقه وحصاره قبلما تكتسح رياحه العنيفة سدود الخارطة الجيوسياسية القائمة، وتندلع هذه المرة حركة التحرر القومي الشامل لعمق الوطن العربي وأطرافه جميعها، وينطلق معها المشروع النهضوي بكامل قوي (الأمة) وبتكامل إمكانياتها المكبوتة والمقموعة، ولكنها الواعدة بتوفير كل الذخائر الضرورية، من إنسانية ومادية، لبناء الأمة الحرة العصرية القادرة علي احتلال مكانها الفارغ من نموذجها طيلة ألف سنة، ومنذ أول سقوط لبغداد الرشيد والحضارة والحرية معها.

لكن أفلح تحالف الثنائي: الاستعمار الجديد و(الرجعية) العربية الصاعدة، في إحكام شتي أشكال الحصار حول الجمهورية العربية المتحدة، وخاصة حول (إقليمها الشمالي) كما كانت تُسمي سورية آنذاك. فقد أحبطت الانتفاضاتِ الوحدويةَ المطالبة بالالتحاق بالجمهورية الجديدة، فتمّت معالجتها سريعاً بطريقة الغزو الخارجي: (إنزال عسكري أمريكي في لبنان، وآخر بريطاني في الأردن) أو بأسلوب التحريف الداخلي وشرذمة قوي التغيير (ضرب ثورة العراق 1958 بما يشبه حرباً أهلية أيديولوجية بين الحزبين البعث والشيوعي). فقد كان رهان بناء الوحدة ونجاحها موقوفاً علي عاملين متضامنين، أولهما نزول البناء الوحدوي من قمة السلطة إلي تحريك متغيرات الحياة الاجتماعية المنتظرة في القطرين وانفتاحهما الكامل علي بعضهما ديمقراطياً واقتصادياً وثقافياً. والعامل الثاني هو النمو الأفقي والانتشار الجغرافي للحراك الوحدوي في معظم ساحات الوطن حول نواة الجمهورية التي قامت، وأطلق مجردُ قيامها هذا فعاليةَ تحريض جماهيرية هائلة في أقرب الأقطار وأبعدها. لقد كان انبعاث عالم عربي موحد (ومن الخليج الي المحيط) قاب قوسين أو أدني من التحقيق، ولم يكن مجرد شعار دعاوي. ذلك هو مثار الخوف الكبير لدي الغرب والرجعية المحلية واسرائيل التي شعرت أنها دخلت حقاً سباق الوجود والعدم مع هذه الثورة الوحدوية العارمة التي تحيط بها من كل جانب. هذا فضلاً عن اهتزاز العروش العربية وتساقط بعضها، فقد أدرك الغرب أن نصف البحر الأبيض المتوسط وما وراءه يكاد يفلت من سيطرته، لأول مرة منذ انهيار الأمبراطورية العثمانية. كذلك لم يكن قطب الحرب البادرة الثاني في موسكو مرتاحاً لغلبة المد (القومي) علي التحرك الشيوعي (القطري).

من هنا كانت ضخامة المسؤولية التاريخية والدولية غير المسبوقة الملقاة علي عاتق قيادة دولة الوحدة. وقد تكون وسائل دفاعاتها معنوية أكثر منها مادية في مواجهة جبهات التآمر الإقليمي والخارجي، ما جعلها تنجح تدريجياً في إيلاء المسألة الأمنية درجة متقدمة علي سواها من أعباء التنمية الاقتصادية والسياسية. وهكذا تراجعت تدريجياً شعبية السلطة القائمة خاصة لدي الفئات الحاضنة أصلاً لدولة الوحدة، وراحت تبرز عنعنات جهوية من وراء أعراض التذمر الشعبي من جمود الأوضاع العامة. لقد تشكلت منذ أواخر السنة الثانية من عمر الجمهورية العربية المتحدة مادة تفصيلية لمقدمات النزعة الانفصالية، استثمرتها الفئات الكثيرة المتضررة في مصالحها المادية وشبكيات نفوذها التقليدي، من قيام نظام حكم جديد فشل في ممارسة وابتكار سلطة وحدوية حقيقية، تتلافي استفحال حساسيات ناجمة عن فروقات طبيعية أو في علاقة الطرف الأكبر بالأصغر.

راحت أخطار تجويف تجربة الوحدة من داخل نواتها الأولي، وفي (اقليمها الشمالي) سورية تحديداً، تمهد الأرض الخصبة لواقعة الانفصال الانقلابي بمشاركة أمنية عسكرية من داخل حكومة الاقليم نفسها، ومن أطراف عربية معروفة. فعاد العالم العربي ثانية إلي اسار خارطته التقسيمية. وجاء انفصال الوحدة الأولي ليؤكد انفصالية دائمة لهذه الخارطة ما بين كل اقطارها جميعها طيلة حقبة النهضة الثانية المتعثرة. وظلت هذه الخارطة مسؤولة عن مسلسل الكوارث من شتي الانقلابات المحيطة أو المرتدة، ومن مسلسل هزائم الحروب مع اسرائيل. فرّخت الانفصاليةُ المستديمة نظامَ الأنظمة العربية الذي أنتج ودعّم هو بدوره، نموذج الدولة القطرية الحارسة الأمنية علي محظوراته وضروراته والمؤسسة لما يشبه دستوراً أعلي فوق دساتير الأنظمة الحاكمة جميعها.

هل كررت وحدوية وانفصالية التوأمة بين لبنان وسورية فصول مولد وزوال الجمهورية العربية المتحدة التي لم تدم سوي سنوات ثلاث، بينما هناك من يعتبر أن التوأمة بين القطرين لا عمر لها إلا من عمر الجغرافية التي جعلتهما أرضاً واحدة، ومن عمر التاريخ الذي شملهما معاً بكل أحداثه، ومن عمر المجتمع المتقارب وتكوينه التنوعي ما بين عناصره الاثنية والمذهبية نفسها أو المتشابهة.

ما يمكن أن يقال اليوم عن حال البلدين، أنهما يعيش كل منهما عواقب الانفصال عن الآخر وتداعياته المرة، كما لو لم يكن الانفصال حالاً طبيعية لأي منهما. هذا مع العلم أن البلدين لم يعلنا وحدة دولةٍ بينهما. بل اقتصر الأمر، ومع بداية الحرب الأهلية، علي ذلك التواجد العسكري للشقيق الأكبر في ديار الشقيق الأصغر، وقد آل في النهاية إلي شرعنته باتفاقية الطائف، وشرعنة خروجه كذلك الذي لم يتحقق في أوانه بل استمر لأكثر من عقد من السنوات العجاف، متحولاً خلالها إلي ما يشبه وصاية الأقوي علي الأضعف بقوة الأمر الواقع فحسب. وما ينتجه هذا الواقع المختل من تفشي الاستغلال، وصدْم الكرامة الوطنية، وشيوع الاحساس العام بانقلاب صيغة الرعاية لبناء الدولة والسلم الأهلي، إلي ما يقرب من صيغة احتلال أجنبي لوطن الآخرين.

لم تكن هناك وحدة دولة سياسية قائمة بين سورية ولبنان، كما كانت عليه الجمهورية العربية المتحدة، ولذلك لم يقع انفصال بين البلدين. بل جري وضع حد لحالة استثناء طارئة، وربما مخلّة أيضاً في ظروف وشروط حالة التوأمة الطبيعية المستديمة التي لم تصنعها لا إرادة فرد حاكم أو دولة مسيطرة، إنها حالة انتشار لنظام حكم قطري معين امتد إلي قطر مجاور لدواع معينة ثم انقضت، دون أن تنقضي معها نتائجها المعكوسة. وما يتبقي أخيراً للقطرين هو استعادة صيغة التوأمة الطبيعية بينهما، وإعادة إنتاج مزاياها التاريخية العريقة، واستبعاد ما أمكن عقابيل استثناء كاد أن يودي بذاكرة التوأمة، ويمنع مستقبلها التكاملي المحتوم بين الشقيقين.