تظاهرات في واشنطن من أجل دارفور، سيشارك فيها نجوم السينما، ويعتقل خلالها نواب بسبب انتهاكهم أملاك سفارة السودان، الرئيس الأميركي والكونغرس يتسابقان إلى اقتراح إجراءات وفرض عقوبات. القضية تستحق الاهتمام من دون شك، لأنها قضية إنسانية أولاً، ولأنها تخطت الظواهر المعروفة في الحروب والنزاعات الأهلية لتقترب من معايير الإبادة والجرائم ضد الإنسانية.

لا يقتصر الاهتمام على الأميركيين، بل يمكن القول إن نزاع دارفور يشغل المجتمع الدولي بشكل يومي، من الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وفروعها، إلى الاتحاد الأوروبي الذي يلعب دوراً أساسياً في دعم جهود الإغاثة للاجئين والمشردين، وأخيراً إلى حلف شمال الأطلسي الذي وجد نفسه مدعواً من جانب الإدارة الأميركية للقيام بدور كبير، لكن الحكومة السودانية رفضت ولا تزال ترفض أي تدخل دولي. ومشكلة هذه الحكومة أنها لم تستطع منذ اندلاع الأزمة قبل سنتين، أن تحتوي المنطقة وتحقق سيطرة أمنية كافية لوضع حد للاقتتال بين الدارفوريين. بل على العكس، أصبحت هذه الحكومة جزءاً رئيسياً من الأزمة، سواء بدعمها بطش ميليشيا "الجنجويد" ومجازرها أو بعجزها عن فرض الأمن والنظام.

وبمقدار ما أن الخرطوم تتحمل مسؤولية في تصعيد المأساة في دارفور، بمقدار ما تبين أن الأطراف الدولية، خصوصاً الولايات المتحدة، تستخدم هذه القضية لتطويع السودان، والتحكم بخياراته الاقتصادية والنفطية فضلاً عن السياسية. لم تكن واشنطن مرتاحة للاتفاق النفطي بين السودان والصين، ولا كانت مكتفية بما أنجز من اتفاقات على تقاسم السلطة والثروة بين الخرطوم ومتمردي الجنوب، لذا جاء تحريك قضية دارفور التي تحولت فجأة إلى منطقة تعج بالسلاح. وكما حصل مع الجنوبيين في السابق يحصل اليوم مع متمردي دارفور، إذ كلما اقترب التوصل إلى اتفاق في أبوجا يحدث ما يعرقله استجلاباً للتدخلات. صحيح أن الثقة معدومة بين الطرفين المعنيين مباشرة، إلا أن عوامل تعطيل الحل السلمي لا تزال فاعلة على رغم سعي الاتحاد الأفريقي بقوة إلى إنجاز اتفاق.

لم يكن متوقعاً أن يتعامل المجتمع الدولي مع نهج المجازر ببرود وتجاهل، فدماء ضحايا رواندا لم تجف بعد، ومحاكمات جزاري رواندا لم تكن قد انتهت عندما بدأت أخبار دارفور تصفع الضمائر. ولم تتنبه حكومة الخرطوم إلا متأخرة إلى حجم الاهتمام الدولي، أو بالأحرى تنبهت بعدما تورطت وأصبحت ممارساتها موثقة. لكنها مع ذلك رفضت طويلاً الاعتراف بالواقع الذي ما لبث أن تجاوز قدرتها على التغطية. كان موقفها مفهوماً في البداية، فهي أمام تمرد جديد ولم تكن قد فرغت بعد من تصفية التمرد السابق بتنازلات مؤلمة للجنوبيين، لكنها عادت فارتكبت الأخطاء نفسها التي غذت التمرد الجنوبي وضخّمته، بل كانت تفرض أي انتقاد، بما في ذلك تقارير لبعثات الجامعة العربية إلى دارفور. فالجامعة تعاملت مع الطرفين على أنهما سودانيان، إلا أنها توجهت إلى الطرف الأقوى، وهو الدولة، طالبة منها أن تبذل كل جهد لتطبيع الوضع وكفّ شر الميليشيات المدعومة منها على مواطنيها الآخرين. وأدى استياء الخرطوم من الجامعة إلى انكماش أي دور عربي فيما كانت الأدوار الدولية تكبر شيئاً فشيئاً، وما لبثت الحكومة السودانية أن رحبت بدور أفريقي على حساب سيادتها أيضاً، لكن من دون أن تقوم بما يمليه واجبها وتقتضيه مصداقيتها، فكان أن هددت بتدخل دولي ستكون له بالضرورة صلاحيات قتالية وردعية.

دارفور تحتاج إلى وقت طويل كي تستعيد سلمها الأهلي، وإلى تنمية ناشطة وحيوية لترى الفارق بين إهمالها ونيلها الرعاية والدعم حالياً، وليس مؤكداً أن أي اتفاق يطرحه طرف ثالث في أبوجا سيكون مشروعاً لسلام دائم. فالمتمردون ذهبوا أبعد من مجرد المطالبة بتحسين أوضاع منطقتهم، وأصبحوا يخططون لاتفاقات مع الخرطوم تمهد لانفصالهم، أي تماماً كما فعل الجنوبيون. أما الخرطوم فقد تمضي سنوات وسنوات قبل أن تعود فتقتنع بتنازلات ترضي الدارفوريين، فتدفع الثمن ذهاباً بالحرب وإياباً بالتنازل.