سواء كان المتظاهرون في نيويورك امس يطالبون بانسحاب القوات الاميركية من العراق خوفا على بلادهم واولادهم من الموت هنا، ام استجابة لنتيجة مفارقة مضحكة مبكية، وهي ان الحرب التي خيضت باسم تأمين النفط للاميركيين، قد ادت الى اعلى ارتفاع في اسعار النفط، لم يعرفه المستهلك الاميركي يوما. ام كانت مجرد جولة في حملات الضغط على الجمهوريين لصالح الديمقراطيين في الانتخابات التشريعية الاميركية المقبلة، فان ما ينطبق على ذلك هو العبارة البسيطة: تعددت الاسباب والموت واحد.

والموت هنا هو موت تاريخي خطير، حتى ولو كان الكثيرون يرفضون رؤيته، انه موت الامبراطورية الاميركية وانحسار دورها الاحادي على رأس هرم العالم، حيث سيتحول هذا الرأس، من كرسي فردي الى اريكة واسعة تتسع لاكثر من جالس، تمهيدا لتحول تدريجي يجعل من اميركا دولة كبرى كفرنسا او بريطانيا او روسيا او غيرها من ورثة الامبراطوريات المندثرة، مع فارق بسيط ان الاميركيين لن يتمكنوا يوما من تشكيل كومنولث اميركي او فضاء اميركوفوني على نمط الفضاء الفرانكوفوني، لاسباب كثيرة تحتاج وحدها الى بحث.

هذه الرؤية قد يراها الكثيرون مبالغة في التفاؤل، وهي قد تكون كذلك فعلا لو انني قلت ان هذا ما سيحصل بعد اسبوع، فالتحولات التاريخية تحتاج الى مدى تاريخي، الزمن شرطه. لكن العمل وطبيعة الظروف المحيطة يؤثران في اطالة هذا الزمن او تقصيره.

وفي اول مسارات العمل المعني، عمل المقاومة العراقية على الارض، مما يذكرنا بالمقولة التاريخية الشهيرة التي تحولت الى شعار في علم الاعلام السياسي وهي: ان الحرب الفيتنامية انتهت امام شاشات التلفزيون الاميركي. لكن هذه المقولة تصبح بغير معنى اذا لم ننتبه الى انه لو لم تمد المقاومة الفيتنامية على الارض شاشات التلفزيون بما تعرضه لما كان لهذه الاخيرة التأثير الذي تحدثنا عنه.
من هنا نصل الى نتيجتين اساسيتين تتعلقان

بنا نحن العرب قبل الاميركيين وغيرهم: النتيجة الاولى هي ان دعمنا السياسي وغير السياسي للمقاومة العراقية ولكل امتدادات المقاومة في العالم العربي هو ما سيعجل في رحيل المحتل عن العراق، بل وفيما هو اهم من ذلك وهو تفشيل المشروع الاميركي الصهيوني الذي يطالنا جميعا انطلاقا من العراق. اما النتيجة الثانية فهي ان افضل ما يمكن ان نقدمه في هذا الجال هو فك الحصار الاعلامي عن المقاومة العراقية، لانه كلما حمل الاعلام انجازات المقاومة، حشر بوش وزبانيته في زاوية اضيق وسرعنا في تحريك الشوارع العربية والعالمية ضد الاحتلال والمشروع الكامن وراءه. لكن السؤال الخطير هنا هو: اين شارعنا نحن؟ نحن المستهدفون اساسا بهذا المشروع، نحن الذين يقاتل العراقيون عنا جميعا؟ اوليس بيننا جيسي جاكسون، اوليس بيننا سوزان ساراندون، اوليس بيننا سيندي شيهان؟ اوليس بيننا لسلي كاغان؟ اوليس بيننا جماعات ضغط من قدماء المحاربين والنقابات وانصار اليئة وحقوق الانسان؟ اوليس بيننا من يقول للاعلام ما قالته منظمة مظاهرة واشنطن: جئنا هنا لنقول للبيت الابيض والكونغرس إن عليهما وقف الحرب الآن والقيام بسحب قواتنا ووقف النيل من حقوقنا المدنية هنا.

ويبقى سؤال اخير: فيما لو تحرك الدم في عروق بعضنا وتحركنا، فهل سيكون دور القوات الامنية كما كان دور شرطة نيويورك، التي تولت مراقبة سير التظاهرة التي توجهت عبر شوارع مانهاتن إلى مقر البلدية، حيث قال قائدها ريموند كيلي ’’إن الهدف الوحيد هو تسهيل هذه المسيرة’’؟ دون ان يعني هذا التساؤل الاخير انه اذا لم يكن الامر كذلك، كان لنا العذر في استمرار نومة اهل الكهف، فيما يقاتل اخوتنا في العراق من بيت لبيت، ولا يختبئون في أية كهوف.