ألغي الحوار الوطني المؤسسات الدستورية. وعطل الدور الطبيعي لمجلس النواب، وهو المؤسسة الحواريّة الدستورية بامتياز. ونصب نفسه وصيّا علي مجلس الوزراء، فما يتقرر حول الطاولة يأخذ طريقه الي المجلس، وما لا يتقرر، أو يبقي موضع خلاف، يتحاشي مجلس الوزراء مقاربته، أو طرحه علي جدول الأعمال لمناقشته. أما رئاسة الجمهورية فقد تحوّلت الي هدف يتم التصويب باتجاهه، تارة تحت شعار العمل علي إسقاط رئيس الجمهورية العماد أميل لحود، وتارة أخري بالسعي الي التعايش معه كأمر واقع لا يمكن إسقاطه دستوريا؟!.

يجتاز لبنان مرحلة انتقالية صعبة ومعقدة، بعد انسحاب القوات السورية من أراضيه، وضعف سلطة الوصاية والهيمنة التي كانت متحكمة بمفاصل الأمور. إلا أن هذه المرحلة تبقي بدون هوية وطنية واضحة، هل هي مرحلة استكمال السيادة؟ هل هي مرحلة اعادة بناء لبنان وفق صيغة سياسية جديدة لم تتضح معالمها بعد؟، هل هي مرحلة اعادة النظر في اتفاق الطائف، لإعادة تطبيقه بمعايير جديدة تتوافق والمتغيرات التي طرأت علي الوضع الداخلي؟.

من الصعب جداً الرهان علي أي استنتاج نهائي، لأن طبيعة الحوار طائفية، ولأن المتحاورين قد ارتضوا تمثيل طوائفهم، أو هم اختيروا الي هذه المهمة، استناداً الي هذه المعايير، والاعتبارات الدقيقة، وهذا يعني اننا أمام مجلس ملي، يضم كبار الزعماء السياسيين، كل في طائفته، وملته. اما الطاولة التي يجلسون حولها، فهي مستديرة الشكل، وهذا يعني ان الجميع متساوون من حيث التراتبية، أو من حيث الصلاحية، وممارسة حق النقض - الفيتو، وبالتالي نحن أمام هيئة، أو مجلس لإدارة الأزمة، وتقطيع الوقت، بانتظار اللحظة الدوليّة - الإقليمية المؤاتية لتحقيق نقلة نوعية، أو إنجاز ما؟!.

لقد تحولت طاولة الحوار الي معلم من معالم السياسة اللبنانية في هذه المرحلة. انها حاجة الضرورة، في الوقت الذي لم تتمكن فيه من التأثير علي مجريات الأمور، وان استمرارها هو الضرورة القصوي، لكي يقال بأن اللبنانيين يتحاورون، ويحاولون الإمساك بزمام أمورهم بأيديهم، وبمنأي عن أية وصاية خارجية جديدة، شقيقة كانت أم صديقة، وانهم يحاولون من خلال حوارهم، تحديد المواضيع الشائكة، والمعقدة، والتي هي موضع خلاف وتباين في الرأي، والموقف وكيفية السعي للوصول الي توافق بشأنها.

وأهم ما أنتجه الحوار حتي الآن، هو استمراره. لأن عدم الاستمرار يعني تغليب لغة التباعد، والتنابذ، والاختلاف، علي لغة التخاطب، والمصارحة والمكاشفة وصولاً الي التفاهم، فالتقرير والتنفيذ.

لا يحتمل لبنان التباعد، والاختلاف، لأن انفراط عقد المتحاورين من حول الطاولة، سيؤدي حكماً الي تداعيات خطيرة، وربما الي اقتتال طائفي، وفئوي ستكون نتيجته الطبيعية، تقسيم لبنان، وتفتيته، وشرذمته، والقضاء علي البقية الباقية من أمل في بقائه، واستمراره، وطن الرسالة، وتفاعل الأديان والحضارات؟!..

لقد انتج الحوار فلسفة جديدة للتركيبة السياسية - الاجتماعية، ولم يعد هناك من دور بارز لطبقة المثقفين في التوجيه والارشاد، أو في القبول والاعتراض. هناك عدد هائل من حملة الشهادات العليا، وفي مختلف الاختصاصات، يقابله تسليم أعمي للمزاجية العشوائية السائدة، والمتحكمة، سواء أكانت مزاجية طائفية، أو مذهبية، أو توغلاً أكثر فأكثر بمنطق العبثية والفوضي.

ما دور المثقفين؟ وأين هي الطبقة النوارة صاحبة الخط العلماني - الليبرالي في المجتمع اللبناني، والتي كانت فاعلة ومؤثرة في ما مضي؟.. ليس هناك من جواب واضح، ومقنع بعد؟!.

الأصح أن القرار ،1559 قد سحب لبنان من تحت المظلة السورية، ليضعه أمام مفترق من الطرق، وبانتظار ان يتفرغ صناع هذا القرار، وفي طليعتهم الولايات المتحدة الأمريكية من ترتيب العديد من الملفات الضاغطة والملّحة في المنطقة، ليصار في ضوء ذلك الي اعادة ترتيب وضعه الداخلي من جديد، وتحديد ماهية دوره، والوظيفة الجديدة التي عليه الاضطلاع بها ان علي المستوي العربي، أو الإقليمي، أو الدولي.

بهذا المعني يمكن القول بأن دول الرعاية قد أسهمت في تغييب المثقفين الليبراليين، وتعطيل دورهم، وحصرت الاهتمام بالطائفيين فجاءت بهم الي المجلس النيابي، ومن ثم الي الحكومة، وبعدها الي طاولة الحوار، لتأجيج العصبية الطائفية في وجه العلمنة، أو في وجه النظام القائم علي المعايير الصحيحة للحرية، والديمقراطية، وحقوق الانسان، وهذا - علي ما يبدو - ما هو مرجو، ومطلوب، وذلك لاعتبارات عدة، أولها ان الطائفيين لا يملكون زمام المبادرة، ولا حتي الشجاعة علي الإقدام لتخطي الحواجز النفسية والمعنوية المفتعلة. كما لا يملكون زمام التقرير والتدبير، لارتباطهم بالخارج، ولكل منهم خارجه، ولا يمكن في هذه الحالة التحامل علي حزب الله، واتهامه بعلاقته المتجذرة مع ايران، وبنسبة اقل مع السوريين، لأن الآخرين لا تنقصهم الخبرة، ولا حتي الشجاعة، والدليل ان تيار المستقبل، برئاسة سعد الدين الحريري، لا ينكر علاقاته التاريخية الوطيدة، مع المملكة العربية السعودية، والأسرة الحاكمة، وأيضاً علاقة الصداقة التي تربطه مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك. أما قوي 14 مارس، فلا تتواني عن التباهي والافتخار في حسن التنسيق القائم ما بينها وبين الولايات المتحدة، أو ما بينها وبين فرنسا، والعديد من الدول الغربية النافذة، في وجه سوريا، وتدخلاتها المستفزة، المستمرة في الشؤون الداخلية اللبنانية؟!.

لقد كرّس الحوار واقعاً مرّا، وخطيراً في آن، فهو الي جهة تعطيله معالم الدولة، والمؤسسات الرسمية، من رئاسة الجمهورية، الي مؤسسة مجلس الوزراء، الي دور المجلس النيابي، قد اسهم في تعطيل المبادرات الداخلية الهادفة الي التغيير، والي المزيد من الحرية، والديمقراطية عن طريق السماح بقيام أحزاب سياسية علمانية، تضع مصالح الوطن فوق مصلحة الطائفة، أو الفئة، أو المنطقة.

والأهم من كل ذلك، ان هذا الحوار لم يخرج لبنان من عهد الوصاية، والرضوخ الي المشيئة الخارجية، وليس هؤلاء هم الذين أخرجوا السوري من لبنان، بل الضغط الدولي، والقرار ،1559 ومن وقف ويقف وراءه، أمثال الولايات المتحدة، وفرنسا، وغيرهما من الدول الأعضاء الدائمي العضوية في مجلس الأمن. والأخطر أن هؤلاء المتحاورين، هم الذين يكرسون الهيمنة، والتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية اللبنانية، والدليل ان لكل منهم خارجاً يمدّه بالدعم المادي، والمعنوي. ولكل منهم ارتباطاته في ضوء مقتضيات مصالحه، ولذلك فإن أيّا منهم لا يملك زمام قراره، وخياره، لأنه رهينة، ولأنه ملتزم بتنفيذ ما يصله من توجيهات، وارشادات من الخارج الذي يتحالف معه، أو ينتمي اليه، ويستمد القوة والدعم في تنفيذ ما هو مكلف بتنفيذه؟!.

صحيح ان المواضيع المطروحة علي طاولة الحوار تعني اللبنانيين بمجموع طوائفهم، وانتماءاتهم، ولكن الصحيح ايضاً ان معالجتها، وأمر البت بها، لا يعود الي الأقطاب المتحاورين، بقدر ما يعود الي الخارج، سواء أكان إقليمياً، أو دولياً. والدليل ان موضوع رئاسة الجمهورية، هو موضوع لبناني بامتياز، ولكن الحوار لم يفض بعد الي ايجاد مخرج له علي الرغم من الاجتماعات، والمناقشات، والجولات المتكررة، والسبب في ذلك يعود الي التجاذب السياسي الحاد، والمحتدم بين كل من ايران وسوريا من جهة، مع الولايات المتحدة، والأمم المتحدة، والمجتمع الغربي من جهة أخري، وهو تجاذب أدي الي طرح مشكلة الرئاسة من جوانب أخري، وعلي قاعدة هل يفترض ان يؤتي برئيس صنع في سوريا لينصب في لبنان، ويكون تابعا لها في سياستها الخارجية؟ أم يفترض أن يؤتي برئيس، كما تتمني، وتسعي قوي 14 مارس، تصنعه الإرادة الفرنسية - الأمريكية الغربية؟!.

وما يسري علي موضوع الرئاسة الأولي، يسري علي سائر المواضيع الخلافية الأخري، من مصير المقاومة، وسلاحها في الجنوب، الي العلاقات اللبنانية - السورية، ومستقبلها، الي العلاقة مع الفلسطينيين، ومصير السلاح خارج وداخل المخيمات، الي سائر المواضيع الأخري المطروحة علي طاولة الحوار؟!.

وفي ظل هذا النهج المفتعل، والمبتذل في آن، بدأت أصوات ترتفع في صفوف المجتمع المدني، متسائلة عن أبعاد هذه المؤامرة المعلبة، والمغلفة بغلاف جميل اسمه الحوار الوطني في لبنان؟!. وأي مستقبل تعده دول الوصاية الجديدة لهذا البلد، ولأهله؟!، وماذا بعد تعطيل مؤسسات الدولة بحجة الحوار الوطني؟. وماذا بعد تعطيل هذا الحوار بحجة ان المتحاورين لا يملكون زمام أمورهم بأنفسهم، بل هم مجبرون علي الاستمرار في دوامته، ولكن ضمن حلقة مفرغة، الي ان يأتي اليوم الذي يتفاهم فيه من يملكون زمام القرار، علي أي شكل من أشكال الأنظمة التي يفترض اختيارها للبنان؟، لا بل علي أي دور، ووظيفة يجب ان تسند لهذا اللبنان؟!.

وهناك من يذهب الي الأبعد متسائلا: هل انتهي نظام الطائف، ليحل مكانه نظام الطوائف، والفيدرالية الطائفية في لبنان؟!.