رغم ما يتمتع به اللاجئون الفلسطينيون في سوريا من حقوق تجعل وضعهم أفضل بكثير من وضعهم في البلدان العربية الأخرى, إلا أن للمخيم الفلسطيني عموماً وجهاً واحداً يرسمه وضع موقت عمره أكثر من نصف قرن, حيث يقطع حلم العودة سبل تحسين ظروف العيش, لتعاني غالبية المخيمات مشكلة أساسية مزمنة تتجلى بغياب شبكات المياه والصرف الصحي, ناشئة عن منازل غير نظامية بنيت على عجل, ومكثت تحت الترقيع طوال عقود طويلة, فلا هي تحسنت ولا أزيلت, وإنما مكثت رهن انتظار مقلق طبع حياة ساكنيها وأورثهم الأمراض بأنواعها الجسدية والنفسية كافة. فهم مواطنون مع وقف التنفيذ في وطن ترسم حدوده الذاكرة, وتلخبط السياسة مقاساته, لكنه في النهاية وطن لا يمكن المساومة على حق العودة إليه, مهما طال الزمن.

اليوم, مع انفتاح الباب أمام اللاجئين الفلسطينيين في العراق للمجيء الى سوريا الى حين تحسن الوضع في العراق, ثمة وعود أخرى وأحلام أخرى ستنهض بها المخيمات الموجودة في سوريا, والتي زاد عددها على عشر مخيمات, تتفاوت في مستوياتها, ما بين مخيم اليرموك الذي يعتبر الأكبر والأهم والأفضل بين سائر المخيمات في سوريا, وبين مخيم النيرب في حلب الذي يعتبر الأقل حظاً والأشد فقراً.

عشر مخيمات وأكثر, يقيم فيها 432 ألف لاجئ صاروا سوريين أكثر من السوريين أنفسهم, وإن كانت سوريتهم قالباً لا قلباً, وبينهم من يجد أن لديه الحق في التصويت في انتخابات مجلس الشعب, وبعضهم الآخر يرى ظلماً كبيراً في حرمانه ارفع المناصب, إذ يقف تدرجه الوظيفي عند حد معين, ومع ذلك لا تزال الأونروا تعرِّف اللاجئين بأنهم: «الأشخاص الذين مكانهم العاديّ للسكن هو فلسطين بين تموز €يوليو€ 1946 وأيار €مايو€ 1948 وأن يكونوا قد فقدوا مساكنهم ومصادر رزقهم نتيجة لحرب العام 1948». هذا مع ان فلسطين 1948 ذاتها طمستها إسرائيل, وقلبت مسمياتها العربية الى عبرية, ولولا ذاكرة الآباء من اللاجئين, واحتفاظهم بالمفاتيح وحفنات التراب والحصى, المخبأة تحت وسائدهم, لكُنا فقدنا رائحة فلسطين. ولِمَ لا نفقد فلسطين, طالما الأنظمة العربية, ومنذ النكبة لم تكفّ عن اعتبارها قضيتها المركزية نهاراً, وإنكارها قبل غروب الشمس, وطالما صار اليوم التبرؤ من فلسطين تسبيحاً بالحمد نيلاً لرضا الأميركيين, ولم يعد يخجلهم سد الأبواب والمنافذ وحتى أدق ثغرة في وجه الموسومين بالإرهاب من دعاة البوشية, لأن كل بلد عربي معلق من كرعوبه, فمن بلد خائف من 180 فلسطيني أن يطيح حدوده, إذا ما تحقق المخطط الاحتياطي للحل الإسرائيلي لتوطين اللاجئين وترحيل الباقي من الفلسطينيين الى بلد آخر تقلقه أفواه الملايين المفتوحة على المساعدات الخارجية, ولا يحتاج فوق مصيبته الديموغرافية والسياسية الداخلية مصيبة فلسطينية برشا «لا بتحل ولا بتجرد», إلى دول اكتشفت رأس الحكمة في قلع كل واحد شوكه بيده, وبالوسيلة التي يراها مناسبة.

ولأن الشوك الموزع على المنطقة أميركي المنشأً, فإن أفضل طرق اقتلاعه مغازلة إسرائيل, وإن أمكن معانقتها علناً لا سراً تحت الدرج, ولا خلف الباب الموصد في وجه الفلسطينيين. فالقيح الأميركي المستفحل, لم يعد يحتمل الحياء وحفظ ماء وجه الأنظمة أمام شعوبها. السياسة «عايزة كده» والسياسة بالمفهوم الأميركي عرض «ستربتيز», أي تعر على الأصول ولعب على المكشوف, أو النفي الى المطبخ لجلي الصحون, وتحمّل غلاظة سيد الإطعام الدولي, مهما كانت نسبة السم أو الدسم في الوجبات الجاهزة, وما على اللاجئين سوى دخول سباق الألف عام للصبر والتحمل, ريثما تحل قضاياهم, أو تصحو الأنظمة العربية على خزيها وعارها, وتعترف أنهم بشر قبل أن يكونوا لاجئين, وعرب قبل كونهم فلسطينيين, وهم أبناء بلاد الشام قبل سايكس بيكو, وبالتالي يستحقون حياة أفضل تصبرهم على فقدهم للوطن, ويستحقون حسب أضعف الايمان الرحمة التي تنطبق على عزيز قوم ذل, ولا يستحقون الدفش مثل قفة الهم من مكان الى مكان, وتركهم نهباً لرياح الشتاء القارس في صحراء الموات العربي. ترى لو كان فلسطينيو مخيم «طريبيل» ليسوا من ضحايا الحرب الديمقراطية الأميركية على العراق, وكانوا من ضحايا إعصار كاترينا, هل كان الأشقاء الألداء سيتركونهم في العراء, دون أن تدب فيهم النخوة العربية للمزايدة على استضافتهم في فنادق فخمة تتسع ليس لمائتي شخص, وإنما لمئات السياسيين وحاشيتهم من المتملقين والانتهازيين تحجز لعقد مؤتمرات وندوات التضامن العربي والتعاضد العروبي, على شرف نصرة فلسطين؟

المصيبة أننا لا نتعلم من تجاربنا مع أننا جميعاً ندرك أن لا أحد منا على رأسه خيمة. أمس كنا بنصرة فلسطين, واليوم ننتصر للعراق, وغداً... والحبل على الجرار.