تحتاج القوى السياسية المهددة بالنزول الى الشارع في العاشر من أيار الى جهد استثنائي لتقنع نفسها أولاً وسائر اللبنانيين ثانياً بأن التحرك "دعماً لحقوق العمال والكادحين" هو مجرد شعور نبيل بضغط الأزمة الاجتماعية وتحسس مع الفقراء والمساكين وأصحاب الحقوق وليس خطوة سياسية في فراغ الوقت المستقطع بين جولتي حوار أو خدمة لمآرب حزبية تتزامن مع تطورات الوضعين الداخلي والاقليمي.

والمسألة في غنى عن بحث وتمحيص. فالاتحادات النقابية التي تختفي وراءها جماهير الطوائف والأحزاب بلغت من التفاهة والانحلال حد الامحاء. فلا أحد عاقلاً يصدق أنها استعادت صدقيتها في ليلة مقمرة أو تحولت فجأة الى قوة ضغط واستنهاض يرفدها "عمال مصانعنا وفلاحونا وصغار الكسبة" بالبحر الهادر من الناس حسب التعابير التي يحلو للقوى "الثورية" و"الأحزاب الطليعية" استخدامها ولو من دون أساس.

لا يلغي هذا الاستغلال السياسي الواضح وجود أزمة اقتصادية عميقة تنوء بثقلها على كاهل المواطنين. فأكثريتهم تعاني انخفاض الأجور وكثرة متطلبات العيش والبطالة وفقدان الأمل بمستقبل وظيفي آمن وبانتاج يتيح الحياة الكريمة. لكن تشخيص المشكلة عند حدود الخطة الاصلاحية المطروحة للنقاش وغير المفروضة حتى الآن، فيه اجتزاء مفتعل تدخل من ثقوبه القوى التي تستهدف رأس الرئيس السنيورة بما يمثل من خط سياسي في اعتقاد منها بامكان اسقاط الأكثرية وفرض توازن جديد يعيد الى الواجهة القوى التي أبعدتها "ثورة الأرز" عن النفوذ المطلق أو عن التحكم من بعد بواجهات القرار أو عن حلم الدخول بشراهة الى جنة السلطة. مثلما تدخل من ثقوبه المشاركة "غير الجدية" لقوى الأكثرية في التظاهر ضد نفسها إما لتسخيف خصومها أو لعدم ترك الساحة مفتوحة لهم.

لا ينتقص من مشروعية المطالب دخول أطراف سياسية على خط دعمها ولو وفق مصالحها، لكن هذا الدخول فيه من التضليل والتعمية عن السبب الحقيقي المولّد للأزمات ما يسيء الى امكان التوصل الى حل جذري للمشاكل وما يغطي بالشعبوية وبالصوت المرتفع على جوهر الموضوع. ذلك أن المطالب المشروعة سواء بالنسبة الى رفض التعاقد الوظيفي أو تجميد الأجور أو رفع الرسوم أو الغاء الدعم عن بعض السلع الأساسية أو النكوص عن مكتسبات المعلمين، بمقدار ما هي ملحة وضرورية، بمقدار ما هي نتيجة لتراكم الفشل في بناء دولة مكتملة الأركان تستطيع اقناع أبنائها ودول العالم والمستثمرين بأنها تملك قرار سلمها وحربها والمؤسسات الأساسية التي تسمح ببناء اقتصاد وخلق بيئة ملائمة للاستثمار والنمو وخلق فرص عمل وزيادة مداخيل الدولة وبالتالي التقديمات.

أجدر بالمطالبين اليوم بفتات تعويضات سيأكلها غداً غول الغلاء ودفع الأثمان جراء الانقسام السياسي وانعدام قيام سلطة حقيقية أن يرفعوا على رأس المطالب شعار استعادة الدولة سلطتها على كل شبر من أراضيها وتوحيد رؤيتها للأمن والدفاع والاقتصاد، بالتوازي طبعاً مع مطلب وقف التجاذبات وتعدد الولاءات. وللمناسبة، فان لدينا حكومتين، واحدة تنفيذية نطالبها ونحمّلها كل الارث والمسؤوليات، وواحدة أهم لكننا نعفيها من المطالبات رغم أنها تمثل التوافق الوطني على طاولة الحوار، وهي في الحقيقة، بتلاوينها وانقساماتها، "بيت الداء". فلتتحمل الحكومتان المسؤولية على السواء، ولتتوقف لعبة استغلال المطالب المحقة على مذبح استحقاقات ما تبقى من مواضيع الحوار أو ما لم يتم تنفيذه منها أو ما يستجد في أروقة الأمم المتحدة، فلقد حان وقت المطالبة بسلطة حقيقية كي نستمتع فعلاً بالتظاهر لاسقاطها وشفاء غليل الناس.