يخطئ وزير الداخلية الفلسطيني سعيد صيام كثيراً حين يبحث عن أسباب الفلتان الأمني في رقعة الأمن وحده، لأن بحثه في تلك الرقعة بالذات سوف يحصر المعالجة في قرارات إدارية، قد تستهدف تغيير هذا المسؤول أو ذاك، أو حتى استثارة «نخوة» هذا الفصيل أو ذاك، كي يتطوع من أجل ضبط الفلتان. الأمن ببساطة حالة اجتماعية، ولأنه كذلك فإن من المفهوم والطبيعي أن تعود أسباب تدهوره إلى الاقتصاد والبطالة، ثم إلى نفوذ مراكز القوى التي تعطل القانون، وكذلك أيضاً إلى تغييب دور وفاعلية مؤسسات المجتمع المدني. الفلتان الأمني هو نتيجة أما الحالة فهي سياسية بامتياز، ولأنها كذلك تحتاج وقفة جدية أمام المعضلات السياسية المأزومة والتي تتفاقم أزمتها يوماً بعد يوم بل ساعة بعد ساعة.

حصر أسباب الفلتان الأمني في رقعة الأمن وحدها يعني حصر المعالجة في إجراءات قمعية بالضرورة وادارة الظهر – كلياً أو جزئياً – للفكرة الأهم، أي النهوض بالحالة الفلسطينية من ركود اليأس والإحباط التي تجعل قطاعات واسعة من المجتمع، وخصوصاً الشباب، لا تجد قوت يومها، فتعمل بنصيحة أبي ذر الغفاري، وتخرج شاهرة سيوفها على الناس طلباً لذلك القوت، الذي كان عزيزاً وصار اليوم أعز بما لا يقاس.

سيكون من غير المفهوم، بل من التبسيط الساذج والخادع معاً، عزل أسباب الفلتان الأمني ومن خلفه الضائقة المالية عن حالة الحصار الدولي للحكومة الجديدة، رغم صحة وجود هذا الحصار واشتداده. حالة الحصار هذه تستدعي بالضرورة قراءة واقعية لا يجوز أن تنطلق من عقلية المكابرة أو من أفق التشدد تحت أية ذرائع، والكف عن المراهنات المستحيلة عن الشعب الذي «يأكل الزيتون والزعتر» ويصمد إلى الأبد. فمثل هذه الأحاديث قد تصلح للمهرجانات والاجتماعات الحزبية الضيقة، ولكنها لا تصلح لمعالجة الأزمة الفادحة التي تهدد الحياة المعيشية وتترك الغالبية الساحقة من أبناء الوطن يغرقون في رمال الفقر المدقع واليأس فيحدث ما يحدث. يتظاهر عناصر الأجهزة الأمنية، فيرى وزير الداخلية في تظاهرتهم المطلبية نوعاً من «مؤامرة» ما ضد حكومته الجديدة مع أن ما يعرفه الجميع أن هذه العناصر تظاهرت في السابق ضد رئيس السلطة الفلسطينية، فالجوع ليس له هوية حزبية، أو علم انتماء تنظيمي فصائلي، بل لعله اليوم – خصوصاً في قطاع غزة – العامل المشترك الأبرز بين مختلف التيارات والفصائل والأحزاب.

لا نبالغ إذ نتحدث عن الأزمة الراهنة حين نشير إلى ضرورة الانطلاق من فكرة أنها «حالة كارثة»، بما يعنيه ذلك من ضرورة معالجتها تماماً مثلما تعالج دول الأرض كلها كوارثها الطبيعية، وإن كانت كارثتنا اجتماعية – سياسية، تفترض معالجات من طبيعتها.

في الأزمة الأمنية، وفي الأزمة السياسية وما يترتب عليهما من أزمة معيشية، لا مفر من البدء من نقطة أساس: غياب البرنامج السياسي الواقعي الذي يستطيع وحده استعادة بعض الأصدقاء، وتحييد بعض الأعداء، أو في الأقل تخفيف آثار حصارهم، بعد نزع الذرائع التي توفرها لهم اليوم سياسات تحدّي الإجماع الدولي، التي تتذرع بحماية البرنامج. فأي برنامج لا يمكنه أن يكون أهم من الشعب ذاته، الذي صنع البرنامج وصنع الحكومة، وصنع من قبلهما المقاومة، التي يتكئ الجميع على فكرة انتمائهم إليها.

من هذه النقطة بالذات، تنطلق المعالجة الحقيقية. أي من لحظة الوقوف مع الذات لرؤية الفوارق الحقيقية بين برنامج سياسي ترفعه منظمة معارضة تستهدف احراج السلطة من أجل الفوز عليها في الانتخابات، وآخر ترفعه المنظمة ذاتها، وقد صارت هي السلطة، وأصبحت بذمتها كل المشاكل والمعوقات التي يعيشها المجتمع. فرؤية هذا الفارق أساسية لامتلاك نوع من الحس بالمسؤولية الوطنية، التي لا يكفي إزاءها الحديث المتواصل عن الفوز في الانتخابات والحصول على ثقة الشعب، فهذه الثقة بالذات تكليف أولي لا يمكنه أن يكون دائماً ومستمراً، بل ومتجدّداً إلا في ضوء أداء الحكومة وقدرتها على معالجة الأزمات.

مطلوب حوار جدي مع رئاسة السلطة ومع الفصائل والأحزاب، ثم مع ذلك تنشيط مبادرات المجتمع المدني وتفعيل دوره. ن دون ذلك ستضاف حكومة حماس إلى قائمة الحكومات السابقة، بل لعلها تسجل فوق ارث تلك الحكومات أنها أسهمت - ولو بحسن نيّة - في إحكام طوق الحصار حول رقاب الفلسطينيين.